سياحة وآثار وتراث
متحف السكة الحديد.. عطر التاريخ
هشام عباس زكريا:
في حي السودنة العريق بمدينة عطبرة تشعر أنك في سياحة في عالم التاريخ وكأنك مع الإنجليز الذين احتلوا الوطن عهداً من الزمان ففي هذا الحي الذي سكنوا فيه وجهوا كثيراً من الإهتمام حيث بنوا منازل حي السودنة على أحدث الطرائق وغرسوا الأشجار الظليلة الباسقة والحدائق المثمرة الجميلة ورصفوا شوارعه بالاسفلت وصنعوا منه قطعة معمارية فريدة حتى يظن الناظر أن الحي قطعة من (لندن) أو إحدى المدن الأوربية الحديثة.
وبعد أن تمّ (سودنة) هذا الحي بعد الإستقلال أصبح يقطنه كبار الموظفين من هيئة السكة الحديد وكان مثالاً للحي الراقي حيث تفوح رائحة العطور والزهور وتنتج بساتينه أجود أنواع الفاكهة ويقصد أهالي عطبرة هذا الحي للتنزه في منتزه عطبرة وحضور مباريات حوض السباحة بل إن أول سينما عرفها السودان كانت هي سينما النجم الأحمر في العام 1931م في هذا الحي.
لقد عايشت في سبعينات وثمانينات القرن الماضي مدى الإهتمام بحدائق هذه المنازل الفسيحة حتى أن السكة الحديد توظف (جنايني) لكل منزل ولها لجنة رسمية تطوف على المنازل وتوزع الجوائز لأكثر المنازل إهتماماً بتنسيق الحدائق.
يحز في نفسي وأنا أكتب هذه الكلمات أن هذا (الحي) لم يجد الوفاء من السكة الحديد فجفت المياه عن المنازل وزبلت الأشجار وماتت الزهور وبرزت صحاري وسط الحدائق الغناء وكلما أمر بهذا الحي أشعر أن نعياً للجمال والرقي والتطور مكتوب فيما تبقى من أشجاره التي تقاوم حرمان الأيام والسنوات.
ووسط هذا الشعور بالحزن على واقع حي السودنة العريق يبرق الأمل في مبنى أنيق وسط الحي أقامته هيئة السكة الحديد ليضم أهم مقتنياتها التاريخية وبذلك يكون أول متحف لهيئة السكة الحديد.
إن فكرة قيام متحف هيئة السكة الحديد وسط حي السودنة تستحق الإشادة والتقدير لمهندس هذه الفكرة وراعيها الأستاذ/ مصطفى احمد فضل مدير شئون العاملين السابق بالهيئة والمدير الحالي للمتحف.
إن المتحف يوثق لمرحلة مهمة للسكة الحديد وهي مرحلة التشييد الأولى في العام 1873م في عهد الخديوي إسماعيل والذي شرع بمساعدة جيش كبير من المهندسين البريطانيين في مد خط (حلفا ــــ كرمة) غير أن الخط توقف بسبب عجز مصر المالي عند صرص على بعد (54) كيلو متراً من حلفا ويستطيع الزائر للمتحف أن يشاهد أول وابور بخار استخدم في هذه المرحلة مشيداً على خط حديدي في فناء المتحف كما توجد صور فوتوغرافية توضح عمليات الإنشاء والمديريين وكبار الإداريين في هذه الفترة.
ويعكس المتحف المرحلة الثانية من تطور السكة الحديد وهي اكتمال خط (حلفا ــــ الخرطوم) في العام 1900م وذلك عبر الصور الفوتوغرافية التي تصور عمليات الإنشاء والمديريين والمهندسين في تلكم الفترة والتوثيق الكامل لعمليات بناء كبري النيل الأزرق بالخرطوم في العام 1910م وكذلك كبري عطبرة الدامر في ذات التاريخ.
ويمكن للزائر أيضاً لمتحف السكة الحديد أن يقف على توثيق المرحلة الثالثة لإنشاء خط السكة الحديد وهو خط البحر الأحمر في العام 1906م والذي تم إفتتاحه في يوم 27 يناير 1906م وقد حضر إحتفال الإفتتاح اللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر حيث أشاد بقيمة الخط الحقيقية في خدمة التجارة السودانية بقوله إن إرتقاء بلاد السودان لم يبتدئ جدياً إلا هذا اليوم لأنها كانت مفصولة عن سائر العالم إلا بخط نهري واحد من السكك الحديد يبدأ من عطبرة عبر البواخر حتى الإسكندرية واستطرد كرومر محاولاً تهدئة المشاعر المصرية حيث قال .. كان قوم يتخوفون من أن فتح السكة الحديد يضر بالقطر المصري ولكن يسرني أن هذه الشكوى تزول شيئاً كلما اتضح للناس أن إنشاء هذه السكة لا يحول شيئاً يذكر من التجارة الموجودة عن طريقها بل يوجد تجارة جديدة لم يكن ممكن أن توجد لولاها.
وفي متحف السكة الحديد أيضاً يطلع الزائر على المواضيع التي كتبتها الغازيتة السودانية عن احتفالات الإفتتاح كما تجد نماذج من التقارير السنوية للسكة الحديد منذ العام 1937م وبعض الأوامر الإدارية الصادرة منذ العام 1913م وتوثيق لهجرة أهالي مدينة وادي حلفا (1963 ـــــ 1964)م.
اهتم أيضاً المشرفون على متحف السكة الحديد بالاحتفاظ ببعض الأدوات المستخدمة في السكة الحديد مثل مجسد للسيمافور والبلنجة والتابلت ونماذج من البطاريات واشارات المفتشين والكمسارية وزيهم المميز اضافة إلى أدوات الطعام الخاصة بهيئة السكة الحديد وبعضاً من أنواع (الراديو) المستخدمة في المحطات الخلوية.
في متحف السكة الحديد أيضاً جناحاً خاصاً بالأوراق الأصلية لتعليقات بعض الرؤساء وكبار قادة العمل الذين زاروا السكة الحديد في الفترة من 1957م وحتى العام 1998م بخط اليد وعلى سبيل المثال تقرأ تعليقات إسماعيل الأزهري، مبارك زروق، أحمد محمد صالح، الفريق إبراهيم عبود ومحمد الحسن دياب ومن الصحفيين حسن الرضي من صحيفة كردفان ومحمود محمد من مجلة الإذاعة وحسن محمد علي من الإذاعة السودانية وميرغني حسن علي من صحيفة السودان الجديد وعبد الله رحمة عبد الله من صحيفة الأنباء.
إن الشعور وأنت تتجول داخل متحف السكة الحديد يتعاظم بعزة وكبرياء الذين أسسوا هذه الهيئة وكأن الشاعر والسياسي الأشهر الحاج عبد الرحمن يرد بقصيدته أنا عطبرة حيث يقول:
أو تسأل من أنا؟ …. أنا جنة المستقبل
أنا قلعة أرسل ضياء من علٍ …. أنا عطبرة … أم الشباب العامل
أنا عطبرة سيماي في الدخان … تنفثه الصور
في البزة الزرقاء … تزدحم الطريق مع البكور
في الساعد المفتول … يعتصر الحديد مع الصخور
* نكتب ذلك والأمل أن يكون التاريخ دافعاً لتطور السكة الحديد ونعود مع الشاعر محي الدين فارس وهو يهدي روعته لحسن خليفة العطبراوي (لن أحيد) عندما قال:
وغداً نعود … حتماً نعود
للقرية الغناء للكوخ الموشح بالورود
نسير فوق جماجم الأسياد مرفوعي البنود
تزغرد الجارات والأطفال ترقص والصغار
والنخل والصفصاف والسيال زاهرة الثمار
وسنابل القمح المنور بالحقول وبالديار
لا لن نحيد عن الكفاح
سنعود يا سوداننا وتعود أنغام الصباح
ولن تعود التنمية إلا بعودة السكة الحديد وتطورها ونمائها وازدهارها.
ولا بديل للسكة الحديد إلا السكة الحديد
ودمتم.