كيف وجد الرئيس ساركوزي نفسه وراء القضبان، ومن هو الملياردير السعودي الذي أدين معه؟

بي بي سي:
قضى الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي، يوم 21 أكتوبر/تشرين الأول 2025، أول ليلة له في زنزانته، بسجن “لاسانتي”، في باريس. وأصبح بذلك أول رئيس فرنسي، في الجمهورية الخامسة ( منذ 1958)، يدخل السجن. وهو أيضاً الرئيس الوحيد في الاتحاد الأوروبي، الذي تنفذ فيه هذه العقوبة.
حُكم على ساركوزي (70 سنة) بالسجن لمدة 5 سنوات بعدما أدانته المحكمة، يوم 25 سبتمبر/أيلول الماضي، بتشكيل “عصابة أشرار”، في قضية “التمويل الليبي”. وتخص القضية سعي اثنين من رجاله هما: بريس أورتوفو، وكلود غيون، للحصول على أموال من الزعيم الليبي، معمر القذافي، لتمويل حملة ساركوزي الرئاسية في 2007.
وبينت التحقيقات الجنائية أن أورتوفو وغيون التقيا، في طرابلس، بمدير المخابرات الليبية وصهر القذافي، عبد الله السنوسي. ويعتقد أن القذافي كان يسعى، في المقابل، إلى رفع العقوبة عن صهره، المحكوم عليه في فرنسا بالمؤبد، في قضية تفجير طائرة ركاب في النيجر عام 1989، قتل فيها 170 شخصاً بينهم 54 فرنسياً.
بماذا أدين ساركوزي؟
أسقطت المحكمة عن الرئيس الفرنسي السابق تهمة التمويل غير القانوني لحملته الانتخابية في 2007، لأنها لم تجد أدلة كافية تثبت صرف الأموال الليبية في الحملة الانتخابية. ولم تجد دليلاً على أن ساركوزي استفاد شخصياً من الأموال الليبية، فأسقطت عنه أيضاً تهمة الفساد والتربح غير المشروع.
ولكن تبين للقضاة أن لقاءات أورتوفو وغيون مع السنوسي في طرابلس كانت من أجل الحصول على تمويل ليبي للحملة الرئاسية، وأن ساركوزي “سمح لمساعديه المقربين بالسعي للحصول على هذه الأموال”. وعلى هذا الأساس، قضت المحكمة بسجنه 5 سنوات، وفرضت عليه غرامة مالية قدرها 100 ألف يورو.
الملياردير السعودي
أصدرت المحكمة الجنائية أحكاماً مختلفة بالسجن والغرامات المالية على اثنين من مساعدي ساركوزي ومن تعاونوا معهما في قضية “التمويل الليبي”. فحكمت على كلود غيون (80 سنة) ، بالسجن 6 سنوات، أما بريس أورتوفو (67 سنة)، فحكم عليه بالسجن لمدة عامين، وبغرامة مالية قدرها 50 ألف يورو.
وحُكم على الملياردير السعودي، خالد بقشان، بالسجن 3 سنوات، وبدفع غرامة مالية قدرها 4 ملايين يورو، بعد إدانته “بغسيل الأموال” وتشكيل “عصابة أشرار”. وكشفت التحقيقات أن غيون استفاد في 2008 من تحويل مبلغ 500 ألف يورو من مكتب محاماة في ماليزيا. وفي الفترة نفسها تلقّى المكتب المبلغ من حساب مصرفي في جدة.
وزعم غيون أثناء التحقيق معه أن المبلغ، الذي حصل عليه من مكتب المحاماة الماليزي، واشترى به شقة في باريس، هو ثمن بيع لوحتين تاريخيتين اقتناهما من هولندا. ولكن المحكمة لم تقتنع بتفسيره، لأن الخبرة الفنية، التي أجراها المحققون، قدّرت ثمن بيع اللوحتين بما لا يزيد عن 35 ألف يورو.
ويعتقد أن المصرفي الفرنسي الجيبوتي، وهيب ناصر، الذي تربطه علاقات عمل وثيقة بعائلة بقشان، هو الذي حوّل المبلغ إلى مكتب المحاماة الماليزي. وقال أثناء التحقيق معه في جيبوتي، إن المبلغ هو ثمن اللوحتين التاريخيتين. وحُكم عليه بالسجن 4 سنوات وبدفع غرامة مالية قدرها 4 ملايين يورو، بعد إدانته “بغسيل الأموال”.
وسيط آخر أدين “بغسيل الأموال”، في قضية “التمويل الليبي”، هو رجل الأعمال الفرنسي، من أصول جزائرية، ألكسندر أحمد جوهري، المقرب من ساركوزي. حُكم عليه بالسجن 6 سنوات، وبدفع غرامة مالية قيمتها 8 ملايين يورو. وأسقطت المحكمة التهم عن اللبناني، زياد تقي الدين، بسبب الوفاة.
انقسام سياسي
أثار صدور الحكم على ساركوزي، بالسجن النافذ 5 سنوات، جدلاً واسعاً في فرنسا. وانقسمت البلاد سياسياً في تفاعلها مع قرار المحكمة. فريق يؤيد الحكم ويرى فيه “انتصاراً للعدالة” وسيادة القانون “على الجميع”. وفريق آخر يعتبر القرار “سياسياً” ويتهم القضاة “بتصفية حساباتهم” مع ساركوزي.
وانتقد السياسيون في اليمين واليمين المتطرف قرار الحكم المعجل، الذي أصدرته المحكمة. ويعني ذلك دخول ساركوزي السجن قبل أن يستكمل إجراءات الطعن. ويرون ذلك إجراء “لا مبرر له”، و”يتناقض” مع أحد مبادئ دولة القانون الأساسية، وهو”افتراض البراءة”.
أما أحزاب اليسار فأشادت بعمل العدالة، ونددت “بالتحامل على القضاة”، وعلى “الصحافة الحرة”، التي كشفت “فساد السياسيين” في أعلى هرم السلطة. وأكدت على لسان نواب وقياديين بارزين أن القضاة “طبّقوا ما جاء في القانون”، الذي ينبغي أن يسري على الجميع دون استثناء، ولو كان رئيس الجمهورية.
وتلقت القاضية، ناتالي غافارينو، التي ترأست جلسة المحاكمة، تهديدات بالقتل، وهو ما دفع بالسلطات القضائية إلى فتح تحقيق في الرسائل والتعليقات بخصوص القضية على الإنترنت. ووصف الرئيس، إيمانويل ماكرون، ما وقع بأنه “تصرف غير مقبول”، منبهاً إلى “واجب الاحترام” في التعليق على أحكام القضاء.
هل كان الحكم قاسياً على ساركوزي؟
يحتج المنتقدون لقرار سجن ساركوزي بأن الرئيس السابق أدين في الدرجة الأولى فقط، وطعن في الحكم. وعليه لا بد، في اعتقادهم، أن يستفيد من تأجيل التنفيذ إلى حين استكمال إجراءات الطعن، ويكون الحكم نهائياً. وذهب بعضهم إلى التشكيك في القانون، الذي يتضمن إدانة تكوين “جماعة أشرار”.
ويرون أن القرار يشكل إدانة على أساس “النية”، وليس على “أساس الفعل”. ويشيرون إلى أن المحكمة أسقطت عن ساركوزي تهمة التمويل غير القانوني للحملة الانتخابية. وأسقطت عنه أيضاً تهمة “التربح غير المشروع” من الأموال الليبية. فكيف تدينه بفعل لم يحدث، ولم يثبت عليه شخصياً؟
وللرد على هذه الانتقادات، تدخَّل محامون وقضاة سابقون وحاليّون في وسائل الإعلام الفرنسية وفسّروا قرار المحكمة بتعجيل تنفيذ الحكم بالسجن. وأجمعوا على أن القانون ينص على تنفيذ الحكم فوراً إذا كانت مدة السجن 5 سنوات فما فوق، وأن هذا الإجراء يطبق في المحاكم الفرنسية على 90 في المئة من المدانين.
وأوضحوا أن الإجراء الاعتيادي هو أن يُنقل المدان مقيداً من المحكمة إلى السجن مباشرة. أما ساركوزي فقد راعت المحكمة أنه تعاون مع القضاء في كامل مراحل التحقيق وإجراءات المحاكمة، ولا يشكل خطراً على المجتمع. ولذلك أمهلته فترة ليجهز نفسه قبل دخوله السجن.
ويردّ المساندون لقرار المحكمة بأن إجراءات التحقيق استغرقت أكثر من 12 سنة، اطلع فيها المحققون على آلاف الوثائق والأدلة، واستجوبوا مئات الشهود، وأجروا عمليات الخبرة والمراجعة على كل دليل أو وثيقة حصلوا عليها. وشرح القضاة بالتفصيل حيثيات قرارهم في قرابة 400 صفحة.
وأشاروا إلى أن القضاة أسقطوا جميع التهم، التي لم يجدوا عليها أدلة دامغة، وأثبتو تهمة تكوين “جماعة أشرار”، التي تدين التحضير الفعلي للجريمة وليس النية – فقد تبين لهم أن وسطاء نقلوا فعلاً 6 ملايين يورو من الأموال الليبية إلى فرنسا. ولكنهم لم يجدوا دليلاً مادياً على أن تلك الأموال استعملت في حملة ساركوزي الرئاسية.
ولذلك أدانت المحكمة الرئيس الفرنسي السابق بأنه “سمح لأعوانه بالسعي للحصول على تمويل غير قانوني لحملته الانتخابية”. وذكرت القاضية غافارينو أن الحكم أخذ بعين الاعتبار “خطورة الجريمة”، وأنها جريمة “ضد الدولة” و”ضد المجتمع”، وأن مرتكبها يمثل الدولة الفرنسية.

سوابق ساركوزي القضائية
أشارت القاضية في جلسة الحكم أيضاً إلى “ضلوع ساركوزي”، بعد توليه منصب الرئاسة، في العديد من القضايا المتعلقة بالفساد واستغلال النفوذ، وإلى استمراره في إنكار كل التهم الموجهة له، رغم إدانته في بعضها إدانة نهائية – وهو ما دفع بالمحكمة إلى إصدار قرار بالسجن النافذ.
قضية “التمويل الليبي” ليست المعركة القضائية الأولى التي خاضها ساركوزي؛ فقد واجه العديد من الاتهامات حيث أدين في عدده منها، وسقطت عنه أخرى لعدم كفاية الأدلة – ولكنه ظل طوال السنوات متمسكاً بموقف واحد، هو أنه “لم يخالف القانون”، وأنه ضحية “تحامُل القضاء عليه”، لاعتبارات سياسية.





