حينما يتخطى رئيس الوزراء وزارة الإعلام

محمد بابكر:
في خطوة أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والإعلامية أقدم رئيس الوزراء د.كامل إدريس على إبلاغ مديرة مكتب قناتي “العربية” و”الحدث” في السودان لينا يعقوب بقرار رفع الحظر المفروض عليها بشكل مباشر عبر اتصال هاتفي.
هذا التصرف وإن بدا في ظاهره إيجابياً وداعماً لحرية الصحافة إلا أنه يكشف عن خلل إداري عميق وتجاوز خطير لصلاحيات المؤسسات الدستورية وعلى رأسها وزارة الثقافة والإعلام.
الحق يقال إن الإجراء السليم لمثل هذا القرار يمر عبر قنوات مؤسسية واضحة، فليس من مهام وزير الإعلام نفسه ناهيك عن رئيس الوزراء أن يقوم بإبلاغ صحفي بقرار يتعلق بعمله.
هناك إدارات متخصصة داخل الوزارة مثل إدارة الإعلام الخارجي هي المسؤولة عن تنفيذ وإبلاغ مثل هذه القرارات.
إن قيام رئيس الوزراء بهذه المهمة بنفسه لا يمثل فقط تجاوزاً لهذه الإدارات بل هو فعل يقلل من هيبة منصبه ويضعه في موضع الموظف التنفيذي الصغير.
إن هذا التصرف يُعد خطأً إدارياً فادحاً لا يرتكبه حتى موظف حديث العهد بالعمل العام، فالدولة الحديثة تقوم على مبدأ الفصل والتعاون بين السلطات واحترام التسلسل الإداري والهيكلي للمؤسسات. وعندما يقفز رئيس السلطة التنفيذية فوق الوزارة المعنية فهو لا يلغي دور الوزير فحسب بل يرسل رسالة مقلقة مفادها أن الإجراءات والقوانين يمكن تجاهلها لصالح قرارات فردية مما يفتح الباب أمام فوضى إدارية وتداخل في الصلاحيات وتجاوز للسلطات وتهميش للمؤسسات.
الأخطر من الخطأ الإجرائي هو التهميش المتعمد لوزارة الإعلام ووزيرها.
إن قرار حظر أو رفع حظر عن إعلامي أو مؤسسة إعلامية هو في صميم اختصاصات وزارة الإعلام. وعندما يتجاوز رئيس الوزراء الوزارة المعنية فإنه يفرغها من مضمونها ويحولها إلى مجرد واجهة شكلية لا قيمة لقراراتها.
هذا التصرف يضع وزير الإعلام في موقف حرج للغاية ويقوض سلطته أمام موظفيه وأمام الرأي العام.
لقد جاء قرار الإيقاف الأصلي من وزارة الثقافة والإعلام والسياحة في سبتمبر الماضي، بناء على ما اعتبرته “تجاوزات مهنية كبيرة ومتكررة”. وبغض النظر عن صوابية ذلك القرار من عدمه فإن الجهة التي أصدرته هي نفسها التي يجب أن تتولى إعلان إلغائه بعد استيفاء الإجراءات اللازمة. أما أن يأتي الحل من خارج الوزارة، فهذا يؤكد وجود أزمة ثقة وتضارب داخل الفريق الحكومي نفسه.
أحدثت خطوة رئيس الوزراء تبايناً واضحاً في ردود الفعل فمن جهة رحبت الصحفية لينا يعقوب بالقرار وشكرت رئيس الوزراء على خطوته معتبرةً أن الاتهامات التي واجهتها هي ضريبة عمل لا بد منها وأشارت إلى أنها وزملاءها تعرضوا لمضايقات عديدة من وزارة الإعلام لكنهم فضلوا الترفع عن الصغائر والتركيز على العمل المهني. كما رحب زملاؤها بعودتها حيث كتب مراسل قناة الحدث نزار البقداوي منشوراً أشاد فيه بتاريخها المهني.
من جهة أخرى أثارت طريقة إعلان القرار انتقادات واسعة في أوساط الصحفيين والمحللين الذين رأوا فيها تجاوزاً للمؤسسية.
إن تدخل رئيس الوزراء المباشر وضع الوسط الإعلامي أمام معضلة
حيث يرى صحفيون وخبراء إعلام أن تصرف رئيس الوزراء على الرغم من أنه يحل مشكلة فردية إلا أنه يعزز من “شخصنة” الدولة ويضعف العمل المؤسسي الذي طالما نادى به الصحفيون أنفسهم كأساس لضمان حرية الصحافة على المدى الطويل.
إن حادثة رفع الحظر عن مديرة مكتب “العربية” و”الحدث” ليست مجرد واقعة إدارية عابرة بل هي مرآة تعكس طبيعة العلاقة الملتبسة والمضطربة بين السلطة التنفيذية والإعلام في السودان. هذه العلاقة التي تتأرجح بين التضييق والتدخلات الفردية باسم “دعم الحريات”
إن المستقبل المنشود لهذه العلاقة لا يمكن أن يُبنى على قرارات شخصية تصدر من أعلى هرم السلطة مهما كانت نواياه حسنة. فالحماية الحقيقية لحرية الصحافة لا تأتي من مكالمة هاتفية من رئيس الوزراء بل من وجود قوانين واضحة وعادلة ومؤسسات مستقلة وقوية قادرة على تطبيق هذه القوانين بحياد وشفافية.
عندما يتم تجاوز وزارة الإعلام فإن الرسالة الضمنية هي أن حماية الصحفي ليست حقاً يكفله القانون بل منحة قد يمنحها مسؤول اليوم ويسلبها آخر غداً.
لذلك، فإن بناء علاقة صحية ومستدامة يتطلب من السلطة التنفيذية بكافة مستوياتها أن تلتزم بمسارين متوازيين.
الكف عن التدخل المباشر في الشؤون الإعلامية وتركها للجهات المختصة مع العمل على إصلاح هذه الجهات وتطويرها بدلاً من تجاوزها.
العمل مع الهيئات التشريعية واتحاد وروابط ونقابات الصحفيين لوضع تشريعات حديثة تضمن حرية الإعلام وتحميه من القرارات التعسفية وتضع في الوقت نفسه معايير مهنية واضحة.
على الجانب الآخر يقع على عاتق الوسط الإعلامي التمسك بالمؤسسية كدرع واقٍ. فالدفاع عن حرية الصحافة يجب أن يكون دفاعاً عن المبدأ وليس عن الأشخاص فقط.
إن رفض التجاوزات الإدارية حتى لو كانت نتائجها إيجابية على المدى القصير هو استثمار في مستقبل تكون فيه العلاقة مع السلطة محكومة بالقانون وليس بأهواء المسؤولين.
في الختام تمثل هذه الحادثة جرس إنذار. فإما أن تكون خطوة نحو مراجعة شاملة لآليات تعامل الدولة مع الإعلام وترسيخ العمل المؤسسي أو ستظل مجرد حلقة جديدة في مسلسل طويل من الفوضى الإدارية وتكريس الحكم الفردي وهو ما يهدد بتقويض كل من الدولة والإعلام على حد سواء.




