منوعات وفنون
الدامر.. من سرق هذه الليلة؟
معتصم الشعدينابي:
أغلقت هاتفي في وجه الخرطوم، ليلة أن وطأت قدماي أراضي الدامر، ولم أنشغل خلال تلك الليلة بما يدور في العاصمة أو سواها من أنحاء الكون، فقد قررت أن أدور لأشواط غير محدودة و(بـلا إحرام) حول محيطي الذي لا يتجاوز الشاعديناب والدامر وعلى هذا الأساس وضعت متاريسي وحددت ميدان اعتصامي، وعزمت على أن استخدم الهاتف عندما أطلبه (أنا) وليس عندما يطلبني (هو)، وقد نجحت في هذا التحدي إلى أن وصلتني رسالة الطيب صديق، وكنت قبلها اطلعت على ترويج في صفحته على فيسبوك لبرنامج بعنوان (قيرزلدا العيد.. الدامر حضور في ذكراها)، وقد أجبرتني هذه الرسالة على البقاء (متصلاً) لساعات ما كنت أرغب في مزاحمة المتصلين خلالها.
هيبة مع البساطة..
كانت ساحة الاحتفال أمام منزل البروفسير عبدالله الطيب بمربع ٢ (حي العشير) بالدامر تشبه أماكن مناسبات الدامر التلقائية والبسيطة التي لا تخلو من الهيبة، الهيبة يفرضها وجود البروفيسر عبدالله الطيب صاحب المكان والزمان.
الحضور كان شعبياً فقط ولا وجود لأي مسؤول رسمي أو وسيلة إعلام حكومية.
الأساتذة (المعلمين) أمثال معاوية عثمان وأمير الحريري وآخرين، كانوا هم من يتقدم الصفوف الأمر الذي أضفى جواً من الرهبة جعلني أهرب إلى مكاني الطبيعي في المقاعد الخلفية، وأتأخر عن الكتابة في الموضوع لأربعة أو خمسة أيام بجانب أسباب أخرى سأذكر بعضها لاحقاً.
واكتشفت بعد الحفل أن بعض العمالقة تدثروا بتواضعهم وشاهدوا الفقرات من خلف الصفوف الخلفية ومنهم دكتور يوسف حسن النعيم وآخرين.
ليلة مسروقة..
ليلة مسروقة في زمن مضن، هكذا وصفها الأستاذ معاوية عثمان في تعليق له على منشور في صفحة الأستاذ مجذوب مصطفى، وأقول إنها ليلة مسروقة من ليالي أمجاد الدامر في ذلك الزمان، وحدود ذلك الزمان مفتوحة بلا خوف أو (زمزغة)، فالليلة توثق لأحداث عمرها أكثر من 70 عاماً، وكل ما انتابك شعور بتقدم العمر تتذكر أن بعض معلميك يتابعون معك الاحتفال وهذا مبعث الإطمئنان من هذه الناحية ومن زوايا أُخر.
على كل يكفينا فخراً أننا كنا ضمن من شاركوا في سرقة هذه الليلة.
إضاءات شنقل..
وبعد إضاءات إبن الدامر د.عبدالرحمن شنقل، عميد كلية الفنون الجميلة (المستقيل) حول مسيرة قريزلدا التي أشار خلالها إلى أنها أبدت ملاحظات مهمة حول تراث وسلوك الناس في السودان واهتمت بالتوثيق والفلكلور خاصة عن الزي السوداني في شمال وشرق السودان.
الدامر تستمع
استمعت الدامر إلى مرثية قيرزلدا الطيب التي خطها وألقاها إبن أخت بروفيسر عبدالله الطيب، الأستاذ إدريس مصطفى، وقلت استمعت الدامر للقصيدة وأنا أعني ذلك، فلم أر حضوراً طوعياً ونوعياً ومتنوعاً في مناسبة مماثلة في الدامر بهذا الشكل في وقت قريب، ولا أتحدث عن أعداد هائلة أو غير مسبوقة، وإنما أعداد غير مجبورة وغير منظورة، حيث شاركت بالحضور النساء والشابات، كما شارك الشباب والرجال وقبلهم الأطفال.
مسابقة الرسم..
وعلى ذكر الأطفال فقد شرفنا الإبن أحمد معتصم، بالفوز بجائزة أفضل لوحة في مسابقة الرسم المفتوحة للأطفال خلال الحفل.
قيرزلدا والطيب صديق..
الفيلم الوثائقي (قيرزلدا والسودان) للمخرج الطيب صديق، فتح باب الذكريات وأبواب التاريخ والجغرافيا، كما فتح (الباب البجيب الريح) على الدامر، حيث لم تخل إشارات وتلميحات وتأكيدات قيرزلدا في حديثها عن الدامر من مدح وملاحظات واضحة وفاضحة ولكن لا مجال للهروب منها.
والعبارة الأكثر مرارة لقيرزلدا في الفيلم: “انا شايفة من سنة 50 لي يوم الليلة الدامر هي هي”، أما الجملة المفيدة والمؤلمة الثانية من قيرزلدا فكانت: “الدامر فيهو حاجات جميلة لكن ناسو مامقتنعين، كلهم عاوزين يمشو عطبرة وعاوزين يمشو الخرطوم”.
النسوان ديل مظلومات..
ثم نبهتنا قيرزلدا في دروسها المجانية خلال الحفل إلى الظلم الكبير الذي يقع على فئة مهمة من النساء العاملات في الدامر وضواحيها وتحديداً اللائي يعملن في صناعة منتوجات السعف، في إشارة إلى أن (القفاف) وكل مشغولات السعف تباع بثمن بخس وقالت:” القفة أرخص من اللازم النسوان ديل مظلومات”.
خلاوي المجاذيب..
حدثتنا قيرزلدا عن خلاوي المجاذيب، وقالت إنها اقدم خلوة في الدامر ومن أقدم الخلاوي في السودان، وكان يأتيها الناس حتى من بلاد المغرب وخصت بالذكر (الشناقيط) الذين يقضون بها عاماً كاملاً أثناء رحلتهم إلى الحج.
لا تعليق..
ولا مجال للتعليق أو الهروب من التعقيب غير أن نقول إنه لا عقبة أمام التغيير إلا الاستسلام.
دعوات انطلقت من د.عبدالرحمن شنقل، والطيب صديق، وكل المتحدثين لتكريم نجوم ورموز الدامر الأحياء منهم والأموات، ومنهم الراحل السر قدور.
وامتدت المطالبات والمشاورات والإتفاقيات الثنائية بعد الحفل وتمددت قائمة الذين يجب تكريمهم على وجه السرعة لتشمل القائمة الدكتور عبدالرحمن شنقل والمخرج وصاحب الدعوة الطيب صديق نفسه، في كل حي وقرية من أحياء وقرى الدامر شخصية أو شخصيات لها بصمات وتأثير إيجابي لا تخطئه العين أو الأذن في حياة الناس على مستوى الدامر المدينة والولاية نهر النيل والسودان كله من شعراء وأدباء ومفكرين وقدامى الساسة، ونأمل أن نحقق بعض ماقلنا وما نتأمل.
نشوة الشربوت
استغرقت كتابة هذه الأسطر خمسة أيام بسبب الرهبة كما ذكرت وأسباب أخرى منها انتظار زوال المؤثر ولا أعني (الشربوت) وإنما أردت أن أكتب وأنا في حالة طبيعية وخالية من النشوة والحماس الزائد، وهي حالة اعترت تقريباً كل الحاضرين يومها.