مقالاتمنوعات وفنون

الطيب صالح…الوجه النبيل (2-2)

إبراهيم القرشي:

أواصل ما جاء عن (تدَيُّن الطيب صالح) في مقدمتي ل (الأعمال الكاملة للطيب صالح..الروايات والقصص)
قلت حرفياً :(ص 23)
“وإذا أردت أن تعرف مقدار عقل الطيب صالح ، عملاً بقولهم : اختيار المرء وافد عقله) فانظر إلى قبساته التي سماها : (من عبير الحديقة المباركة)[المختارات: 13/2] فهي سياحة في الحديث النبوي الشريف ؛ كلها في مكارم الأخلاق ومعالي الأمور ؛ كالانصراف عن الدنيا والزهد فيها والتواضع والرحمة والتسامح والرفق والإنصاف..وأشهد أنها ما أعجبت الطيب إلا لأنها من صفاته ، وما اختارها إلا لتتأسَّى الإنسانية بها.
أما إذا اردت حديثا رقَّت حواشيه حتى كاد يذوب من اللطف..إذا أردت حديثاً عجن بماء الإسلام وضُمِّخ بعبير الإعجاب والمحبة فاقرأ أحاديث الطيب عن الخليفة عمر بن الخطاب الذي هو من فلتات الزمان كما قال عنه : [المختارات : 214/9]..ثم اقرا حديثه عن ابن عمر وعن عمر بن عبدالعزيز وعن عبدالله بن عبدالعزيز العمري والأسرة العمرية كلها..واقرأ التحليل العميق لأحداث التاريخ الإسلامي.واقرا إعجابه بالشخصيات الإسلامية وإجلاله وإكباره لها..اقرا حديثه عن المتصوفة وعن أئمة المذاهب..
وللذين لايعرفون تدين الطيب صالح ومعرفته الموسوعية بالتاريخ الإسلامي واعتداده برجاله واحتفاءه بآثارهم وانتقاءه لأبلغ أخبارهم ..لهؤلاء أن يقرأوا فقط النصف الأول من المجلد الثاني من (المختارات) وعنوانه :(المضيئون كالنجوم…)
والطيب في حله وترحاله يتفقد أحوال المسلمين ومآل الإسلام وتستوقفه دقائق الأمور قبل جلائلها : “وقد جمع مستر هيلتون كما يفعل الأمريكان بين الدنيا والدين ، فوضع في كل غرفة من غرف فنادقه المنتشرة في أنحاء العالم ، إنجيلاً…الحمد لله بدات تجد الآن في بعض فنادق المسلمين مصحفا شريفا وسهما يدلك على القبلة [المختارات: 130/1] وقد اعجبت الطيب تلك التظاهرة التي لم يحدث مثلها منذ أن صمتت المآذن في الأندلس قبل مايزيد على خمسة قرون ، إذ لم يحدث أن ارتفع الأذان خارج ديار الإسلام في حشد كالذي جمعه لويس فرخان الزعيم (الآفرو- أمريكي) أمام البيت الأبيض وعلى مرمى حجر من الكونقرس الأمريكي في (كابيتول هل) وقد طاف فوقهم جميعا نداء الإسلام بسماحته التليدة بصوت عذب تخالطه عُجمةٌ يخيل إليك أن مثله صوت بلال …” [المختارات : 177/4] أما حديثه عن مكة المكرمة والمدينة المنورة فهو حديث العاشق المولَّه..قدل في رحابها حافيًا حالقًا :
” كل معاني الإسلام في هذين البلدين وهما جدُّ مختلفين
الأماكن ليست كلها سواسية يالك الخير..وهذا المكان ليس ترابا وحجارة..وإنما هو مِسك معجون بعبق الحب القديم..وهذا الدين قام أصلا على الحب”[المختارات : 86/3] بل ذهب الطيب إلى أبعد من ذلك حين تراءى له أن شاعر الجاهلية القديم امرأ القيس حين قال :
تنوَّرتها من أذرعاتِ وأهلها
بيثرِبَ أعلى دارها نظرٌ عالي
قال : ” نظر امرؤ القيس بعين الغيب إلى النور المحمدي
الذي اشرق بعد زمان في المدينة المنورة”
وفي اثناء حديثه عن المدينتين المقدستين ، مكة والمدينة تحدث الطيب عن البوصيري والبرعي اليماني وشوقي وحاج الماحي العاشق السناري الذي رأى ضوء القبة بعين بصيرته قبل ان يراه في الحقيقة”
قلت : ولن تجد أحدا من أفندية هذا الزمان ومثقفيه يجلُّ المديح النبوي وشعراءه إلا عظم في عيني ، إذ لا يستخفُّ بهذا الضرب من الأدب الراقي إلا جاهل او غافل لم يكلف نفسه الوقوف على شواطئ هذا البحر المتلاطم.
وما أصدق الطيب واروعه حين قال عن حاج الماحي:
” إن شعره خاصة وشعر أضرابه ، صاغ وجداننا ونحن اطفال نتشبث بأذيال آبائنا وأمهاتنا في حلقات (المديح) بالعشيات قبل أن نعرف القراءة والكتابة أو نعي شيئاً من أمور الحياة. عرفنا مولد الرسول الأمين ونشأته وبعثته وما كابد من العناء في مكة . ثم هجرته إلى المدينة حيث سطع نور الرسالة قوياً وهَّاجا. عرفنا جهاده وجهاد أصحابه ، وعرفناهم بأسمائهم واحدا واحدا؛ المعرفة انتقلت إلى قلوبنا الغضة مباشرة في صيغة غناءٍ مُترَعٍ بالحب والشَّجَن “[المختارات : 51/1] قلت : وهذا فَوْحٌ من عبق (القرية) الذي ظل عالقا يضمِّخ أعماق الطيب صالح مقيماً ومرتحلاً ، وانداح في أحاديث ابطال قصصه و رواياته..” حامد يطلع مداح يمدح الرسول مثل حاج الماحي زمان ، وأحمد ود سعيد اليوم في العفاض.” [مريود : 69] أو قول الآخر : ” سنختنهما وسنحضر المغنين والمداحين ونقيم احتفالا يكون ذكرى مضيئة من ذكريات طفولتهما..” [موسم الهجرة : 109] وبعد هذا الغيض من الفيض ألا يحق لي أن أقضي عجباً من أخي وزميلي العربي الذي أقسم بالمحرِّجات الثلاث أن الطيب صالح مسيحي ، وكان هذا اعتقاده فيه مع محبته له.؟!! ألا يحق للطيب أن يضحك وأن نضحك معه ؛ لأن بعض الناس يقولون إنه ملحد؟؟!!! وهل يختم الملحد مقالاته بمثل قول الطيب : ” وصلى الله على سيدنا محمد ما ناءت نخلة بأحمالها وما حَنَت أمٌّ على عيالها” ؟؟ أو قوله : “وصلى الله على سيدنا محمد ما انهَلَّت الدِّيَم وما جُرَّت على المذنبين أذيالُ الكرم “.
ونواصل إن شاء الله عن :
( الطيب صالح ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم)
(الطيب صالح والتعريف بالسودان : تراثه ولغته وأهله)
(في الصورة : شخصي الضعيف بين الأستاذ الطيب والشاعر العراقي يحيى السماوي ويظهر الأستاذ الصحفي فتح الرحمن يوسف وبعض الإخوة).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق