فتح الرحمن يوسف:
نحن في حاجه ملحة جدا لأن نسأل أنفسنا سؤالا مهما في هذه المرحلة وهو على الرغم من حدوث ثورات هدفت إلى التغيير وآخرها ثورة ديسمبر، لماذا لم يتحقق التغيير الإيجابي الحقيقي الذي ينتظم كافة جوانب حياة السودانيين (سياسة واجتماع واقتصاد وثقافة)؟
الإجابة على هذا السؤال وإن كانت مؤلمة وتنكأ بعض الجراح وقد لا تعجب الأحزاب السياسية وأتباعها والحركات المسلحة ولكن طرحها واجب وضروري إن أردنا تحقيق غايات التغيير الحقيقي لا إزاحة حزب وإبداله بآخر أو عزل حكومة والإتيان بحكومة أخري أو تغيير أشخاص بأشخاص آخرين .
في إعتقادي وعلى الرغم من أن هنالك معوقات خارجية للتغيير إلا أن العائق الأكبر هو داخلي يتمثل في هشاشة الفرد السوداني والحزب السوداني والنظام الإجتماعي السوداني والمثقف السوداني .
صحيح أن بعض الدول لا تريد للسودان أن يستقر وأن حدث تغيير مفاجئا لنظام حكم معين دون ارادتهم فإنهم يسارعون للسيطرة عليه ويدعمون سرا وعلانية مسارات الفوضي حتي لا يحدث التغيير الحقيقي الذي من أجله قامت ثورة الشعب ولكن مع ذلك كله فإنهم لولا ضعف بنيتنا السياسية والاجتماعية ماكان لهم أن يجدوا موطئ قدم في شأننا الداخلي.
وهنا أود أن أشير إلى بعض معوقات التغيير من وجهة نظري وبلغة بسيطة وشرح بسيط وواضح لعلي أفتح بابا لنقاش جاد وبناء يمكن أن نصل من خلاله لموضع الداء وكيفية إيجاد الترياق الناجع وسأختصر ذلك بطريقة غير مخلة في النقاط التالية:
من البديهي أننا نعلم أن التغيير في أي بلد تخطط له قيادات وطنية واعيه ومؤهله وتملك إرادة وطنية خالصة وصادقه ولكن في حالتنا السودانية نجد أن قيادات التغيير يرتمون دائما في حضن الخارج ويتشتتون في إنتماءاتهم لمحاوره المتعددة ظنا منهم في إيجاد الدعم وتثبيت قواعد وأركان نظام مابعد الثورات فيجدون أنفسهم بوعي أو دون وعي منهم بأنهم ينفذون مشاريع أجنبية غريبة وبعيدة عن أحلام وآلام وحاجات وإرادة الشعب السوداني ومشروعه الوطني الذي ينبغي أن يكون لاحظتم عندما أتت ثورة ديسمبر هرب كثير من الاسلاميين إلي تركيا كحاضنة وحامية بدل الإحتماء واللجوء إلى الشعب والصبر على أذاه ودفع ثمن وتكاليف التغيير وكذلك فعل حمدوك وكثير من وزرائه ومستشاريه قبل وبعد إنقلاب ٢٥ أكتوبر بالذهاب إلى حيث كانوا قبل الثورة بدل الصبر والنضال مع الشعب حتى يتحقق التغيير المنشود .
جبن النخب والمثقفاتية عن المواجهة المباشرة والإحتكاك بالمجتمع والتعاطي مع قضايا التغيير بصبر واحتمال وتحمل تبعات وتكاليف ذلك مهما تطلب الأمر ولكننا في حالة السودان نجد نشاط النخب محصور في المركز ويتمثل في محفل أو محفلين طوال العام ويؤم هذه المحافل جمهور من الصفوة المعتادة علي حضور مثل هكذا أنشطة وهؤلاء بالطبع ليسوا المستهدفون وحدهم في مسار عملية التغيير فهم لا يتجاوزون بضع آلاف من تعداد شعب تجاوز الـ٤٠ مليون .
أو يتخفون خلف الميديا ووسائطها الحديثة بدل التجول في القري والبوادي والفرقان حاملين رسائل التغيير فغالب الشعب لا تتوفر لديه هواتف ذكيه ولا شبكة إنترنت قوية وإن وجدت ربما لا يعتبر شحن باقة الانترنت أولوية أهم من قوت اليوم وجرعة الدواء لمريض وإن توفر الهاتف الذكي وشبكة الانترنت بالله عليكم أن تتأملوا نماذج دعاة التغيير المنتشرين في الكلوب هاوس والفيسبوك وغيرها من الوسائط هم أنفسهم يمثلون أحد أكبر عوائق التغيير الحقيقي في السودان لأنها نماذج مشوهة فكريا مأزومة وموتورة نفسيا عديمة الموهبة ضيقة الأفق في نظرتها للقضية الوطنية .
الهروب إلي البندقية..
مع تقديري الكامل واحترامي لحملة السلاح طوال تاريخنا السياسي إلا أنني أعتقد أن البندقية أسهل الطرق رغم تكاليفها الباهظة والتي بموجبها فقد السودان خيرة شبابه وقياداته فبدل أن يتحمل القادة ثمن دعوتهم إلي التغيير كأفراد ويصبرون على أذي السلطة فيصبحوا نموذجا يحتذى فإنهم يأخذون معهم الآلاف من البسطاء لمحارق الحروب وإن كانت مبررة إلا أنها ليست الوسيلة الوحيدة الأوفق والأنجع والتاريخ أثبت ذلك فعسكرة قضية الجنوب لم تأتي إلا بانفصال الجنوب وكل الاتفاقيات اللاحقة في مساراة التفاوض مع نظام المركز القابض لم تثمر غير الكراسي والحال والمآل كما هو لم يتغير شئ.
غياب المشروع الوطني الاستراتيجي الشامل المتفاوض حوله والمشاور فيه أهل السودان في حاضرهم وبواديهم المتفق عليه.
ترك أمر التغيير في يد قلة لا تملك المشروع ولا أدوات التغيير المواكبة ولا القدرة علي الوحدة ولا المرونة وتقبل الآخرين من شركاء الوطن .
عدم وجود القيادة المجمع عليها التي تتمتع بكاريزما عالية في الشارع فللأسف كل القيادات التي أراها اليوم إما صنعهم الإعلام والمال أو صنعهم أتباع وقطيع من المريدين الذين (لا يهشوا ولا ينشوا) أو رفعتهم روافع جهوية وقبلية.
في اعتقادي أن القيادة المتمكنة من التغيير لا تتطلب أخلاق الأنبياء ولكن قليل من الوطنية والنأي عن التخندق حول فكرة الحزب الواحد والفكرة الواحده فلا غاندي كان نبيا ولا كان أتباعه حواريون وصحابه ولا مانديلا ولا بول كيغامي كانوا رسلا يوحي إليهم المطلوب من صفات يتصف بها القائد المطلوب هي التجرد من الأنا (الذات) والأنا (القبيله)والأنا(الحزب) والأنا (الطائفة) والأنا(الجهة) وتمثل نحن (السودانيون).
في الحقيقة أي تغيير حقيقي يجب أن تكون خلفه قيادة رائدة وأحزاب راشدة ومواطن واعي وهنا يحضرني سؤال مهم وهو لماذا لا يثق السودانيون في الأحزاب السياسية بالطبع الإجابة تتمثل في الآتي:
1/غربة المنشأ وغياب المشاريع الوطنية وإن وجدت مشاريع فإنها لا تلامس القضايا الأساسية في حياة الناس ولا يبشر بها ولا تطرح للعامة.
2/الفشل المتكرر في اختبارات السلطة
3/الانغلاق حتى على مستوى العضوية والنشاط في صفوة ونخبة معينة بعيدا عن المجتمع التقليدي الذي يمثل الغالب الأعظم من السودانيين.
4/الإعتماد على الجانب النظري فقط في التعاطي مع العملية السياسية والاجتماعية دون إتباع القول بالعمل فمثلا كل أحزابنا السياسية السودانية لها أمانات وسكرتاريات رياضية وثقافية وتعليمية وصحية ولكن لا توجد لديهم مساهمات عملية في كل الجوانب أعلاه ،الشئ الطبيعي والمفترض أن تكون هنالك نماذج عملية في الثقافه والاقتصاد والرياضة والتعليم حتى تنضج الفكرة النظرية وتكتمل جوانب النقص فيها من خلال الاختبار العملي وعندما تتمكن الأحزاب من السلطة تكون الفكرة على المستويين النظري والعملي في أجمل و أكمل مستويات النضج.
للأحزاب جيوش جراره من الأطباء المسيسون في الأمانات والسكرتاريات الطبية ولكنهم لا يغيثون ملهوفا ولا يعالجون مريضا ذو فاقة مجانا ولا يوفرون جرعة دواء لطفل وإن حدث من ذلك شئ فإن الميديا ستضج بالصور والبطولات متاجرة وكسبا رخيصا.
هذه الأحزاب تتعامل مع مؤسسات الدولة كمختبر ومع المواطن (كالذي يتعلم الحجامة في قفا اليتامى)، كأن مؤسسات الدولة والمواطن مكان لتعلم السياسة والاقتصاد والثقافة والصحة لا مكان لتطبيق المشاريع الناجحة الناضجة والمجربة على أيدي قيادات مؤهلة ومتمرسه.
أعتقد أنه لا قيمة لحزب يملك جيوشا من الرأسماليين الأغنياء وجيوشا من موظفي المنظمات الدولية أصحاب الرواتب الدولارية وأقرب جيران دور ذلك الحزب ينامون جوعى وربما لا يسمح حتى لطفل عطشان في صيف الخرطوم الغائظ بدخول الدار لشرب جرعة ماء بارد أو حتي الاستراحة تحت ظل جدران الدار .
التغيير الحقيقي هو ليس تغيير الأنظمة الحاكمة فقط فقد جربنا تغيير الحكام كثيرا لذلك علي الأحزاب أن تتجه لبناء ذاتها ومراجعة مشاريعها وتجريبها وتأهيل قياداتهاوأن تكف عن الهرولة نحو الكراسي قبل أن تتمكن من احداث التغيير الحقيقي في بنية المجتمع ووعيه واستعداده ليكون في غالبه مجتمعا موحدا في دفعه لعملية التغيير حاضنا لها ومدافعا عنها متجاوزا لإنتماءاته الضيقة متقبلا لبعضه البعض وصولا لتحقيق أهداف البناء والتنمية في المجالات المختلفة وعلي الرغم من صعوبة هذا الأمر في الوقت الحالي إلا أننا سننقش كل يوم علي جدار الوعي ولو حرفا واحدا علي أمل أن يتحقق حلم التغيير المنشود ولن نمل أبدا والله المستعان.
فتح الرحمن يوسف سيدأحمد – باريس