حوارات وتحقيقات

نيروبي.. وفي القلب صورة زاهية..

نيروبي- إخلاص نمر:

تذكرت أغنية الراحل المقيم حمد الريح، عندما صدح بصوته المتفرد “والتميرات البهبن ديمة راقصات في حروفنا والدعاش والغيم رذاذ في العصير بالفرح بلل كتوفنا”. عبرت الطريق وانا أخطو أولى خطواتي نحو الفندق في ضاحية ايرورو الكينية، تناثر الرذاذ فوق رأسي وغيمة عابرة أجبرتني على تحيتها كانت تلك زيارتي الأولى لمدينة نيروبي، التي تشكل قارة لوحدها.

الإسم والدلالة..
واسم نيروبي مشتق من (انكارا نيروبي) وتعني بلغة الماساي (مكان المياه الباردة) والآن هي المدينة الخضراء تحت الشمس ذات الطقس الناعم ساحرة شرق أفريقيا ودرة مدنه وانا مازلت أطيل النظر هنا وهناك، انتبهت على صوت نسائي يدلني على غرفتي ما أجمل نافذتي التي تطل على الشارع الرئيسي الذي يتيح لي ملاحظة مقاربة التنوع الأفريقي والسحنات المختلفة.
كان موقف الحافلات قريبا من الفندق، كذلك (البودا بودا) وهي الدراجات البخارية التي يطلقون عليها هذا الاسم.

سرقني الزمن وانا اتابع من النافذة الشارع الضاج بالحركة وتذكرت ان الغد هو أول أيام المدرسة الصيفية للعدالة المناخيه، فهذا اسم الفعالية التي جمعت اكثر من 47 دولة أفريقية ، تنوع الحضور بين الشباب ونشطاء المناخ والبيئة، ومنظمات المجتمع المدني ،يتقدمهم الأساتذة الاجلاء من دول أفريقية مختلفة.

محاضرات ونقاش..
أطل الفجر بخيوط ذهبيه غاية في الجمال وإبداع الخالق سبحانه وتعالى، واصطفت حافلات جامعة كنياتا لنقل الوفود من الفندق الي الجامعة العريقة والواسعة، حيث تقام
فعاليات المدرسة، في الحافلة، تعارفنا وتسالمنا وغصنا في مؤانسة جميله، هنا بيورتي وأسامة وعزيزة ومانا من كينيا، وهناك نيتاسيسي من ليسوتو ، و ريتشارد من غانا وادريس واحمد ونجمة من الصومال، وكأننا نعرف بعضنا من قديم وزمن جميل، جلسنا سويا في قاعة المحاضرات التي تنوعت فيها المحاضرات الكثيرة عن المناخ وتغيراته وأثرها على الكوكب، كان التخفيف في مقدمتها والتكيف مع آثار المناخ وبناء المرونة وكان الحديث عن المرأة حاضرا، ففي أفريقيا يقع عبء وزمجرة المناخ عليها، ما يجدر الاهتمام بها بصفة اكثر خصوصية.
كان للطاقات المتجددة نصيبا وافرا، وللحرص نحو بناء كوكب معافى، هدفا يجب أن يسعى نحوه الجميع، لم تسقط التوعية من آثار تغير المناخ والتعافي منه من بين أوراق المحاضرات الثرة، التي شكل مخرجاتها النقاش الدسم من قبل المشاركين برمتهم ، والذي أثلج صدر كل الأساتذة وبذر نواة الطمأنينة في قلوبهم بأن (أفريقيا تحت مجهر الشباب…ستحتفي بالأمان المناخي والوصف تعبير من عندي).


من النفايات.. وجوه في المرايا..

كانت نيتاسيسي من ليسوتو، جارتي في الغرفة رقم 314 ، شابة أفريقية لطيفة، درست ماجستير البيئة في مصر فاختزنت ذاكرتها البكر بعض الكلمات العربية، حدثتني( ليسوتو) والتي أحب ان اناديها بهذا الاسم، حدثتني عن نشاطها التطوعي في مجتمعها، وهي التي تقود حركة شبابية تعاونية، تأسست عام 2015، قصت قصة نشاطها قائلة (نعمل على إدارة النفايات وتقليلها، حيث نركز على معالجة البلاستيك والأوراق والخرق القديمة، لنصنع منها بعض المنتجات، مثل المرايات واواني الزهور، ونجتهد في تسويقها ،ولقد عملت المنظمة على تدريب النساء في ذلك ليستفدن من العائد المادي).

أما روث من كينيا، فقد أكدت قائلة (اعمل مع النساء في مجتمعي الصغير، واساند الأطفال في المدارس عن طريق التوعية والتدريب، على كيفية المحافظة على المجتمع نظيفا وعلى الماء أيضا، بجانب ذلك اعمل في مجال تشجيع النساء على زراعة الافوكادو وذلك بتوزيع البذور اليهن، إضافة لحث المجتمع باكمله على الاهتمام بالزراعه وغرس الاشجار، ولايفوتني ابدا تدريب النساء على بناء السلام والتعايش).


قلب المدينة.. الحراك والتنوع ..

قلب مدينة نيروبي، يضج بالحركة وكلاكسات السيارات والحافلات وأصوات البشر، ازدحام في الحركة في ساعات الذروة، مثلما يحدث في شوارع الخرطوم ، بل اكثر، وبمعية الزميل اسامه خطونا داخل سوق الماساي، امتداد طويل على الجانبين، اكشاك وطبالي لعرض المصنوعات اليدوية الجميله، ورائحة تراث أفريقي يملا عبقه المكان، لوحات أفريقية بأيد ماهرة الصنع تنتشر في كل مكان، لم يسع الوقت لبلوغ نهاية السوق فاكتفينا بمنتصفه، لنغوص في قلبها الكبير، و نتناول الغداء في احد المطاعم الشهيرة، الذي يكتظ بالرواد ، لم تكن العودة للفندق تشغلنا كثيرا فاسامة يعرف كل شيئ عن بلده كينيا وعاصمتها، مثله مثل بيورتي الجميله التي اخذتني في جولة أخرى في تلك الأمسية الباردة، كانت جولة الى سوق كاريكور والذي تنوعت سلعه المصنعة يدويا، والزاهية بالوانها الأفريقية المميزة، والتي فاقت ماكينات الغرب والموضة،و بعد جولة فيه، دلفنا الي قلب الشوارع الداخلية والرئيسيه في قلب نيروبي من شارع كينياتا المسمى على الرئيس الأسبق جومو كنياتا والذي تصطف فيه المقاهي والمطاعم والمحال التجارية، و شارع اوهورو، لم تخل منطقة او شارع في قلب المدينة الخضراء من الحراك والازدحام فهي عندي مدينة لاتقف الحركة فيها، كان مبنى البرلمان وجهتنا وماحوله من أبنية شاهقه، مبان جمعت بين الحداثة والتقليد وشوارع نظيفة وخضراء،فعلا مدينة لن تسقط من الذاكرة يوما.

في منزل نزار وسوزان..
بما انني غبت عن( الطبق ) المحبب الي قلبي في الإفطار، طلبت من سوزان ان يكون( حبيب الشعب السوداني) حاضرا، الفول الذي لم اتذوق مثله من قبل، اكلت حتى انحدرت حبات العرق من جبيني، كانت سوزان بحق رمزا للكرم والحفاوة التي احاطتني بها في منزلها منذ التاسعة صباحا، شدتني الاشجار والازهار والشتول والنعناع الذي اعشقه، وبعد تناول الشاي الكيني بنعناع طازج من حديقة سوزان، خرجنا في جولة مميزة في شوارع نيروبي الخضراء ومناطقها قاردن استيد ،وشارع كيامبو، روندا استيد ،ورونا ايفز قرين، ورواكا وبنانا وشارع اليو ان، كما يحب الجميع أن يطلق عليه هذا الاسم، هنا مبنى برنامج الأمم المتحدة للبيئه، وهناك المقر الرئيسي للامم المتحده في أفريقيا والشرق الأوسط ، ونحو مزارع الشاي والبن كانت محطتنا التالية ،هتفت برائعة تاج السر الحسن رحمه الله عندما غصت داخل الاشجار الخضراء ( قد رأيت الناس في قلب الملايو، مثلما شاهدت جومو، ولقد شاهدت جومو، مثل ما امتد كضوء الفجر يوما، انت يا غابات كينيا يا ازاهر،قصيدة اسيا وأفريقيا).

في براديس لوست (paradise lost)
مع سوزان قصدنا براديس لوست،، هتفت بأعلى صوتي للجمال والسحر والخضرة وروعة الطقس، و البحيرة الاصطناعية، مراكب تجوب قلبها واطرافها، وشلال هناك تسمع صوت خرير مائه من على البعد، زرافات ومجموعة من الحمر الوحشية ترتع في امان، تقفز القرود من فرع الي فرع، وحان كما قالت سوزان (فلندخل الكهف) عبرنا ممرا واخر ووقفنا أمام الشلال سبحان الخالق العظيم، سرحت في الكهف والماء وأشجار طويلة تقرب ان تعانق السماء، ما أجملك ايها الفردوس!!!

نافورة راقصة..
في مول يأخذ مساحة كبيرة جدا، خطوت بمعية سوزان التي شرحت لي انه اكبر مول في شرق أفريقيا، (تو ريفرز) هذا اسمه، ساعتين او اكثر تسكعنا داخل المول الهائل، ومشروب ساخن على أنغام رقص النافورة التي شدت انتباه الزوار، لنخرج بعده الي فيلدج ماركت ،مستوى راق من العمارة والخضرة وراحة ومتعة في التسوق.

في المساء.. مع ألارا..
عدنا لمنزل سوزان ومعنا أبناءها احمد وألارا التي اسمتها والدتها على اسم إحدى ملكات مملكة كوش، الصبية ذات الأحدى عشر عاما، تتميز بذكاء ثاقب وتسعى من خلال القناة التي انشأتها على اليوتيوب، ان تلفت نظر الأطفال والأمهات إلى التعايش مع مرض السكري، حدثتني ألارا (اعمل بعض الوجبات التي يمكن لمريض السكري تناولها بأمان، فأنا اتخذ من القناة مجالا للتوعية، وأعلم أن كثير من الأطفال مثلي يعانون من مرض السكري، ولكن باتباع الإرشادات الطبية سيكون حقا مرض صديق). لله درك يا ألارا، حقيقة نحن ننتظر كنداكة مثقفة قادمة، عرفت منذ عمرها الطفولي الان أين موضع قدمها، وألارا تجيد الألمانية بطلاقه بجانب الانجليزية والعربية والموسيقى والسباحة وتعشق طائر الفلامنجو.

لوحت لها بيدي..
وأخيراً حزمت أمتعة العودة للوطن بعد أسبوعين كاملين في المدينة الخضراء، تنقلت فيها بين المعرفة والترفيه، وبنيت جسرا من المودة مع الوفود التي شكلت صوتا واحدا (نريد العدالة المناخية الان) ،لوحت بيدي من مطار جومو كنياتا الرائع والواسع المتميز بخدماته السريعه رغم الازدحام وكثرة المسافرين والعابرين، فهو من أكبر المطارات في شرق أفريقيا وربما الأكبر على الإطلاق، كان الرذاذ قد بلل كتوفنا ثانية وكأنه يودعنا في طريق العودة للسودان. نيروبي انك مطبوعة في قلبي زاهية وبهية.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق