مقالات

من “الرياضة الجماهيرية” إلى تقليص دور الاتحادات الانتقالية.. دروس الماضي تتكرر

د.عبدالكريم الهاشمي:

في مشهد يعكس التعقيد الذي يعيشه الوسط الرياضي السوداني حيث مازالت تداعيات القرار المثير للجدل الذي أصدره الاتحاد السوداني لكرة القدم والذي يقضي بتقليص دور الاتحادات الانتقالية وتحويلها إلى “مناطق فرعية” هكذا دون اي سند شرعي او قانوني.
لا ينسى الوسط الرياضي السوداني القرار الشهير الذي اتخذه الرئيس الأسبق جعفر نميري في سبعينات القرن الماضي والذي قضى بتحويل النشاط الرياضي إلى ما عُرف حينها بـ”الرياضة الجماهيرية”, حيث كان الهدف المعلن وقتها هدف سامي ونبيل هو إشراك أكبر شريحة من المواطنين في ممارسة الرياضة، لكن التطبيق العملي أدى إلى تفكيك الأندية وضعف المنافسات الرسمية، مما انعكس سلباً على كرة القدم السودانية التي كانت في أوجها، فإذا بها تتراجع تدريجياً وتفقد مكانتها القارية.
بعد نحو نصف قرن من الزمان، وبينما لا تزال كرة القدم السودانية تبحث عن طريق العودة إلى منصات التتويج، يواجه الوسط الرياضي قراراً مشابهاً في أثره وذلك بتقليص دور الاتحادات الانتقالية وتحويلها إلى “مناطق فرعية”. وبرغم اختلاف الظروف بين الأمس واليوم، إلا أن التشابه في الأثر المتوقع يثير القلق حيث أن قرار الرئيس نميري ألغى فعالية الأندية والاتحادات لمصلحة شعار عام وفضفاض تسبب في انكماش النشاط الكروي، كذلك فإن قرار (اتحاد دكتور معتصم) الذي يسعى لانتزاع شرعية الاتحادات الانتقالية وتطبيق مركزية إدارية قابضة في إدارة اللعبة هو الآخر سيؤدي إلى تدهور وتراجع كرة القدم. إن كلا القرارين ” رغم اختلاف السياق” يشتركان في تهميش القواعد الرياضية الفاعلة لصالح رؤية إدارية أثبتت التجربة فشلها، عليه فإن النتيجة المتوقعة إذا أصرّ (اتحاد دكتور معتصم) على قرار تحويل الاتحادات الانتقالية الى “مناطق فرعية” هي إضعاف فرص التطوير الحقيقي للنشاط الكروي وإضعاف الهياكل القاعدية التي تمثل العمود الفقري لتطور كرة القدم، لأن كرة القدم لا تتقدم بالقرارات المتعسفة وغير المدروسة أو بالمركزية القابضة والمفرطة، بل بتمكين القواعد المحلية ومنحها الاستقلالية ودعمها بالموارد لتصنع المواهب وتجري التنافس في كل ارجاء الوطن بمدنه وقراه. ومن هنا. إذا كان قرار “الرياضة الجماهيرية” قد مثّل محطة تاريخية في تراجع كرة القدم السودانية، فإن الخشية قائمة اليوم من أن يؤدي قرار تقليص الاتحادات الانتقالية إلى “مناطق فرعية” إلى إعادة إنتاج ذات الأزمة، وذلك عبر إضعاف الهياكل التي تخدم القاعدة الرياضية. إن المقاربة بين القرارين تكمن في إضعاف النشاط الكروي وتوقف عجلة ترقية بنيته التحتية والفنية والادارية, إلا أن المفارقة بين القرارين هي أن الرئيس نميري اتخذ قرار الرياضة الجماهيرية انتقاما لفريقه الذي تعرض لهزيمة أمام ناظريه, أما (اتحاد دكتور معتصم) فلم نعلم له غبينة تجاه الاتحادات الانتقالية حتى ينتقم منها بهذا لقرار المتعسف الذي يسعى لتقصير ظلها الاداري وجعلها مناطق فرعية وتحجيم دورها وتأثيرها الرياضي, ومن نافلة القول أن نشير الى أن هذه الاتحادات لم ترتكب مخالفة ولم تتهرب من الوفاء بأي التزام. كذلك هنالك مفارقة أخرى قد تجعل قرار “الرياضة الجماهيرية” قرارا مقبولا من حيث ظاهره فهو قرار يهدف الى توسيع القاعدة الرياضية وإشراك أكبر عدد من فئات المجتمع في النشاط الرياضي وهذا هدف سامي، بينما هدف (اتحاد دكتور معتصم) من تحويل الاتحادات الانتقالية كأجسام فاعلة ومؤثرة في الريف والولايات إلى “مناطق فرعية” محدودة التأثير والمشاركة هو حرمان جماهير 18 اتحاد تضم في عضويتها اكثر من 500 نادي تنتشر في ارجاء السودان المختلفة من ممارسة ومتابعة النشاط الرياضي الكروي ونصب حجاب بينها وبين التطور. إن التطوير الحقيقي للرياضة وهياكلها يتطلب تمكين الاتحادات الانتقالية لا تقييدها, وتعزيز وضعها الاداري وليس انتزاع صلاحياتها، لأن مستقبل الكرة السودانية مرهون بالانتشار الجغرافي لا بالتمركز في المدن الكبرى فقط.
يطرح القرار محل المناهضة تساؤلات عميقة منها, هل نحن بصدد إصلاح تنظيمي يستند إلى رؤية استراتيجية واضحة، أم أمام خطوة مرتجلة قد تعطل مسيرة الرياضة السودانية لسنوات؟ وهل هذا القرار جاء استجابة لرغبة بعض النافذين الذين جاؤوا للاتحاد العام من الاتحادات المحلية المجاورة لمناطق الاتحادات الانتقالية وهم يحملون اثقالا من الخلافات مع الاتحادات الانتقالية فجاء القرار لترضيتهم وكآلية لتصفية حساباتهم ووسيلة للتشفي والانتقام؟ معلوم أن أداء كثير من الاتحادات الانتقالية يتفوق على بعض الاتحادات المحلية في كثير من المناطق تضم الاتحادات المحلية والانتقالية وقد احرزت نتائج أفضل منها في المنافسات القومية الأمر الذي ربما يكون مبعثا للموجدة والغبن. إن الاتحادات الانتقالية لعبت دوراً محورياً في نشر وتطوير النشاط الكروي بالمناطق الطرفية، وأسهمت في تنظيم المنافسات، وتوسيع قاعدة المشاركة، بما يتسق مع مبادئ الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) الرامية لتوسيع دائرة اللعبة, فإن أي محاولة لتحجيم دورها أو تخفيض وضعيتها إلى “مناطق فرعية” سيؤدي إلى الاضرار بالرياضة كما سيضر بمصالح اللاعبين والأندية التي تجد في الاتحادات الانتقالية مظلة شرعية لإدارة نشاطها.
إن إعادة النظر في هذا القرار من (اتحاد دكتور معتصم) ضرورة ملحة، حتى لا تتحول الرياضة السودانية من مشروع جماهيري واعد إلى نشاط صفوي نخبوي محدود ومحصور في نطاق ضيق، فاقد لروح الانتشار والعدالة والتكافؤ في الفرص. فالمطلوب ليس التضييق على الاتحادات الانتقالية، بل دعمها وتمكينها حتى تتحول تدريجياً إلى اتحادات محلية قوية، بما يعيد للرياضة السودانية بريقها المفقود ويضمن مستقبلها التنافسي إقليمياً ودولياً.

Krimhashimi5@gmail.com
0912677147

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى