الحيوات المنسية في زمن الحرب ( ٢)
كيف تلتهم الحرب الحيوانات الأليفة والضالة، والمخلوقات الصامتة في شوارعنا ؟

بقلم/ بروفسور شادية اللازم:
الاستاذ بكلية البيطرة- جامعة بحري
لا تُدمّر الحرب المدن، وتُشتّت العائلات، وتُمحي المناظر الطبيعية المألوفة فحسب، بل تُدمّر أيضًا تلك الحيوات الهادئة الصامتة التي كانت تُشاركنا منازلنا وأحياءنا.
تُعدّ الحيوانات الأليفة، والكلاب الضالة، والقطط، والحمام، والطيور من جميع الأنواع، من أوائل ضحايا الصراعات، وإن كان نادرًا ما يُذكر معاناتها. عندما يفر الناس بحثًا عن الأمان، تُترك هذه المخلوقات لتواجه الجوع والخوف، وعالمًا جُرّد فجأة من الرحمة.
الحيوانات الأليفة المهجورة حين يهجر البيت وتبقى الذاكرة:
مع اشتداد المعارك وخلو المنازل، تجد الحيوانات الأليفة المُعتادة على رعاية البشر – الكلاب والقطط والحيوانات الأليفة الصغيرة – نفسها بلا طعام أو حماية. تجف أوعيتها، وتبقى أبوابها مغلقة، ولا تعود إليها أيديها المألوفة أبدًا. يجوب الكثيرون الأنقاض، يشمون رائحة أصحابها، منتظرين عند عتبات لن تُفتح أبدًا.
الكلاب والقطط الضالة، التي كانت تعيش على فتات الأسواق والمنازل، تتجول الآن في الأحياء الصامتة حيث لا مخابز مفتوحة ولا عائلات تطبخ. يدفعها الجوع إلى سلوكيات غير مألوفة – نبش الأنقاض، والقتال بشراسة على بقايا الطعام، وفي يأس شديد، تتغذى على جثث لم تُدفن بعد. هذا الاحتمال المروع واقع موثق في الحروب الطويلة: عندما يسقط البشر، تقترب منهم الحيوانات الجائعة أحيانًا، ليس بدافع الوحشية بل بسبب الجوع والتخلي.
هل قتل الجنود هذه الحيوانات؟
في خضم فوضى الصراع، غالبًا ما تظهر تقارير عن جنود يقتلون الكلاب – أحيانًا بدافع الخوف، وأحيانًا لمنعها من تنبيه الأعداء، وأحيانًا لمجرد أن الحرب تمحو حدود الرحمة. سُحقت القطط تحت الأسقف المنهارة، وهلكت حيوانات كثيرة عطشًا قبل أن تصلها الرصاصات بوقت طويل.
ومع ذلك، ينجو الكثيرون – بفضل غرائز أقدم من الحضارة. تشكل الكلاب مجموعات للصيد، وتلجأ القطط إلى الأقبية، وينجح بعضها في التسلل إلى حدائق مهجورة حيث تمنح الطبيعة بصيص أمل. صمودها مذهل، وهو شهادة هادئة على إصرار الحياة على الاستمرار حتى في ظل القصف.

المعاناة المنسية للحمام والطيور المحبوسة في الأقفاص:
لم تكن جميع الحيوانات قادرة على الهرب. عندما فرت العائلات مذعورة، ترك الكثيرون وراءهم الحمام والببغاوات والكناري وطيور الزينة لا تزال حبيسة أقفاصها. خفقت قلوبها الصغيرة على قضبان معدنية بينما هزت الانفجارات محيطها .بدون طعام أو ماء أو حتى فرصة للنجاة، نفقت أعداد لا تُحصى من الطيور في صمت، طوت أجنحتها ليس بفعل الطبيعة بل بسبب الأسر.
انقلبت بعض الأقفاص أثناء القصف، فتحررت بعض الطيور عن طريق الخطأ. وهلكت أخرى ببطء تحت وطأة الإهمال – ضحايا ليس للقسوة، بل للإرهاب والتسرع وغريزة البقاء القاسية. أصبحت الشوارع المليئة بالأقفاص الفارغة ذكريات مُرعبة بأن هذه الأرواح، هي الأخرى، كانت جزءًا من المنازل التي دمرتها الحرب. قصة مؤلمة وهي جزء من خسائر الحرب التي لا تحصى خسائر لا تدون في التقارير, لكنها تكتب في ذاكرة البيوت.
العواقب الصحية والبيئية حين يمتد الخطر الى الانسان:
يُترتب على التخلي عن أعداد كبيرة من الحيوانات ونفوقها عواقب وخيمة:
انتشار الأمراض: تجوب الحيوانات الجائعة مناطق أوسع، مما يزيد من الاحتكاك بين الحيوانات الضالة والماشية والبشر. وتشهد حالات داء الكلب والالتهابات الطفيلية والأمراض الحيوانية المنشأ ارتفاعًا حادًا.
تراكم الجثث: تُسهم الحيوانات غير المدفونة في تلوث مصادر المياه وانتشار الجراثيم مما يُسبب مخاطر صحية جديدة. كداء الكلب, انتشار الطفيليات, وكثيرا من الامراض المشتركة.
اختلال التوازن البيئي: يُؤدي الاختفاء المفاجئ للحيوانات الأليفة والطيور إلى اختلال النظم البيئية المحلية – حيث تتكاثر القوارض، وتتكاثر الحشرات بلا ضابط، وتغير الحيوانات المفترسة مناطق عيشها.

الأثر الاقتصادي.. خسائر صامته:
تواجه المجتمعات التي انهكتها الحرب ضغوطًا إضافية:
فقدان الدواجن والماشية يعني فقدان الامن الغذائي
تنهار الخدمات الصحية، فلا يبقى منها نظام لإدارة الحيوانات الضالة أو جمع جثثها.
تفشّي الأمراض يُرهق الخدمات الصحية الهشة.
الأثر التراكمي هو حلقة من المعاناة تمتد إلى ما هو أبعد من ساحة المعركة.
إنها خسائر لا ترى… لكنها تلتهم المدن ببطء.
مأساة صامتة تحتاج إلى صوت:
الحرب لا تقتل البشر وحدهم , انها تطفيء أصوات الطيور التي كانت تغرد فوق الاسطح, وتكسر قلوب الكلاب التي كانت تنتظر اصحابها, وتترك القطط تبحث في الخراب عن مكان ياويها.
هي حرب على الضعفاء أيضا.. على الكائنات التي لا تعرف سبب سقوط الجدران, ولا تفهم لماذا تغير العالم من حولها فجاة.
إنقاذ الإنسان واجب.. لكن إنقاذ كائن صغير هو إنقاذ لروح الإنسانية ذاتها، تلك الروح التي تحاول الحرب دائما أن تخمدها.


