مقالات
ضرورة الانتقال من التخذيل لبناء مواقف سياسية راشدة
د.عبد الكريم الهاشمي:
1
التحية لقوات الشعب المسلحة السودانية، شرف السودان البازخ، ومصدر فخر السودانيين على مر الازمنة والدهور، والتي ظلت عصيّة على كل محاولات هزيمتها في ساحات القتال، او ضربها من الداخل بتفكيكها تحت دعوى اعادة هيكلتها. أعادت القوات المسلحة في حربها الدائره مع القوات المتمردة والمسنودة إقليميا ودوليا، والتي تمتلك عتادا حربيا ومؤنا لا تملكها دولا، اعادت الثقة لنفوس الوطنيين وأشفت صدور قوم مؤمنين بعد ان اصابها الحزن والغبن جراء الحملة العنيفة التي قادها بعض السياسيين الذين هتفوا ضدها “معليش معليش ما عندنا جيش” وبذلك فاليفرح الوطنيون. اكدت القوات المسلحة من خلال الحرب التي فُرضت عليها من عملاء الخارج، لدعاة التشكيك في قدراتها ومهنيتها وحرفيتها، وللذين أسرفوا في الإساءة إليها والتقليل من شأنها، انها قوات مهنية ومحترمة، مؤهلة ومقتدرة، وقادرة على ردع العملاء والخونة، والطامعين في زعزعة المواطن ونهب خيرات الوطن، وأوصدت بذلك الباب أمام المتربصين بها، واسكتت الاصوات الداعية لتفكيكها وتسريحها.
2
ما من عاقل يقف مع الحرب، ويأجج اوارها، ولكن حينما تكون الحرب ضد الجيش الوطني، تنعدم الخيارات، وتضمحل فرص المزايده والمناورة السياسيه، ويظل هنالك موقفا واحدا هو المتاح والمشرّف، لا يحتمل اللجلجة، ولا التباطؤ، والتماطل، هو خيار الأنحياز الى الجيش الوطني، بهامة مرفوعة، وقوام ممشوق “صدر بارز”. إن في مثل هذا الإقتتال، لا تبنى المواقف وفقا للمصالح والمكاسب، بل ينبغي أن تؤسس وفقا للمصلحة الوطنيه. عجبي من أصحاب المواقف الملونة والمتذبذبة، الذين هتفوا من قبل بحل قوات الدعم السريع “جنجويد إنحل” حينما كانت مصالحهم تقتضي ذلك، أما حينما إرتبطت مصالحهم مع الدعم السريع، وإقتضى الحال وجوده كحارس وضامن لتلك المكاسب والمصالح، تغنوا له، واعتبروه المخلص وحامى حمى المدنية، ورائد الديمقراطية، غير ابهين لمواقفهم السابقة الداعية لوجود جيش مهني وطني وااااحد، مما يؤكد ان هذه الدعوة كانت مبنية على تكتيك وليس مبدأ. الراشدون كل الراشدون ضد الحرب والإقتتال، لكن إن كانت الحرب من فصيل عسكري تمرد على الجيش بل غدر به، مدعوم ومسنود من قوى إقليمية، فالرشد هنا يقتضي مناصرة ودعم الجيش القومي الوطني الذي يعتبر صمام الأمان للوطن والمواطن، ولا مجال للإلتفات لكل الدعاوى التي تحاول التشكيك في الأهداف الاساسية للحرب والتي يتصدرها القضاء على تمرد قوات الدعم السريع.
3
إن الحقيقة التي لا يختلف فيها إثنان أن الدعم السريع هو صنيعة “عمرية” خالصة وهو الذي وفر له الإطار القانوني الذي مكنه من العمل بمعزلٍ عن القوات المسلحة، هذا إن لم يكن موازيا لها، بالرغم من تحفظات الجيش المعلنة عن خطورة مثل هذا التوجه، ولكن إصرار الرئيس السابق هو الذي فرض هذه القوة، وبالطبع يتحمل وزر ما صنع. كانت قوات الدعم السريع تحت سيطرة القائد العام للجيس “الرئيس شخصيا” ليس لقادة الجيش سلطة عليها في إنتشارها وتوجيهها، وكان هذا وضعا شاذا ينبئ بكثير من المخاطر مثل التي تعيشها البلاد اليوم. تمددت قوات الدعم السريع بشكل مريب في ظل الفترة الانتقالية حيث تضاعفت قواتها أضعافا مضاعفة، وحشدت ترسانة من الاسلحة المتنوعة، وجمعت من المتحركات والمؤن والزخائر ما لم يمتلكه الجيش، وبنت القواعد والمعسكرات، ووضعت يدها على كثير من المقار التابعة للجيش التي تم تفريغها لصالحها بقررات سيادية، وضعت ارتكازات مدججة باسلحة ثقيلة داخل المقار الحكومية الإستراتيجية والحيوية، بل إرتكازات مدججة داخل المقار السيادية والعسكرية، حدث كل ذلك في ظل صمت مريب من القائد العام للجيش الفريق البرهان، بل كان يتغزل في الدعم السريع، بل ذهب الفريق البرهان لأبعد من ذلك حينما الغى المادة 5 من قانون الدعم السريع المجاز من المجلس الوطني السابق بمرسوم دستوري، والتي نصت على أن يكون الدعم السريع تابعاََ للقوات المسلحة. لا يتحمل البرهان وحده جريرة هذا التمدد وهذا التضخم إنما القوى السياسية الفاعلة، التي كان يرجى منها موقفا يمنع صنع جيش موازي للجيش الوطني، ورفض تمدد الدعم السريع، إلا أنه حدث العكس، حيث تماهت القوى السياسية معه، وأصبح حليفها الذي تتوكأ عليه، وتهش بها على مصالحها، بل ذهب البعض إلى أن قوات الدعم السريع تصلح لأن تكون نواة لتكوين جيش سوداني، بعد أن يتم هدم وتفكيك الجيش الوطني. اوهموا بائد “الدعم الصريع” بأنه رجل السلام والخبير الاقتصادي الفذ الذي ستحل قضية الاقتصاد على يديه، وهو القائد الذي سيحرس التحول الديمقراطي والمنقذ للثورة من الضياع متناسين كل المجازر التي ارتكبها بعد الثورة.
4
كثيرون هم الذين حذروا من هذا الواقع المرير الذي تشهده البلاد إثر إندلا الحرب الدائرة بين الجيش السوداني ومتمردي الدعم السريع، والتي أظهر فيها الجيش إحترافية متميزة، ومهنية عالية، في التصدي لحسم اطماع قادة القوات المتمردة (الشقيقين الاحمقين الشقيين) ومن ساندهم من الداخل من بؤساء السياسة وعملاء الخارج ومن الدول الخارجية. إن الحرب الدائرة بين الجيش الوطني والمتمردين، فيها منتصر إن شاء الله القوات المسلحة، وفيها مهزوم ومدحور “الدعم الصريع”، وليس كما يدعي البعض ان ليس فيها منتصر، فيها خائن وغادر، وفيها وطنيّ وثائر، فيها عميل وكفيل، وفيها اصيل ونبيل، وليس كما يدعي اصحاب المواقف الرمادية انها حرب بين جنرالين، او انقلاب يقوده الكيزان، او حرب لتحقيق اطماع ورغبات شخصية في السلطة. خيّل للكثيرين أن هذه الإدعاءات الواهية، تبرر موقفهم لمساندة المليشيا المتمردة مساندة مبطنة، تتوشح بثوب الحكمة الكذوب. إن المواقف الوطنية التي يسطرها التاريخ لا تحتمل التردد والضبابية، ولا المناورة والمراوغة، وهي ليست سلعة تباع وتشترى في سوق النخاسة السياسي، فالواجب الوطني يقتضي إثبات موقف لصالح الوطن إبتداءً، لا عوجاً فيه ولا أمتا، موقف يناصر القوات المسلحة التي تمثل الجيش الوطني دون سقف للتأييد.
5
أسرف زعيم الدعم الموؤد في الأساءة لقادة الجيش، والسخرية من منسوبيه، وتبنى مقترح هيكلته بإجراء جراحة عميقة، وصرح بفصل قادته وتسريحهم. مارس أسوأ أنواع العمالة هو وشقيقه، اظهروا أسوأ ضروب الصلف والطغيان، والاستبداد والغطرسة والإستعلاء. ظلت قوات الدعم السريع وقادتها “الاخوين الشقيين” تعمل خارج القانون بل تعطل القانون احيانا، فتتدخل في عمل النيابات والمحاكم لتعطيل العدالة، لها سجون خاصة تعتقل فيها الابرياء من الخصوم، وتخططف وتغيب فيها قسرا الناشطين من السياسيين المخالفين، تسفك الدماء دهسا او رصاصا دون أن يغمض لها جفن، اغرت الشباب وضعاف النفوس من السياسيين لممارسة العمالة ضد الوطن رهبة ورغبة. مثلت قوات الدعم الصريع وقائدها البائد حجر عثرة اما التحول الديمقراطي والإنتقال السلس الى الحكم الديمقراطي، وذلك للإزدواجية الكبيرة التي يتعامل بها قائد “الدعم الصريع”، فتارة يتعامل كسياسي ينشد مبادئ الديمقراطية، وتارة عسكريا يقتل ويقمع دعاة الديمقراطية في المواكب السلمية. تسبب في تدهور الاقتصاد بالسيطرة على اهم مورد في الدولة الأمر الذي احدث خلالا اقتصاديا.
6
صنفٌ من الناس مازالوا يقفون صامتين تجاه القتال الدائر دون إبداء موقفا مؤيدا للجيش، او إصدار رأيا مساندا له، بالرغم من بؤس المبررات التي هي أقرب الى مساندة المتمردين، إذ أن الأشياء تعرف بأضادها. صنف آخر يساند التمرد بمحاولة إضعاف المساندة الجماهيرية الكاسحة للجيش، بالتشكيك في اهداف الحرب تارة، أو بالتباكي عن الاحلام التي إرتبطت بالاتفاف الإطاري وضاعت في ركام الاقتتال الدائر.
7
إن الحرب حتما ستضع اوزارها، عاجلا، لا آجلا، وبالطبع لن تعود الاوضاع السياسية والتحالفات بين الكتل السياسية، كما كانت عليه قبل الحرب، وإن واقعا سياسيا جديدا ستفرزه الحرب. إن اى عمليه سياسية يُراد منها ان تُفضي لحكومة مدنية، وتقود لتحول ديمقراطى، لا تتم إلا فى ظل جيش مهنى قومى وااااحد، وإن تعدد الجيوش هو اكبر مهدد امنى لاى عمليه سياسية، بل لم يكتب لأي عملية سياسية النجاح والاستقرار حتى وان كانت تقود هذه العملية لدوله مدنيه وتحول ديمقراطى في ظل تعدد الجيوش. على السياسيين من الاطراف كافةً، وضع الترتيبات والاستراتيجيات التي تتناسب مع الواقع الجديد، وأن تختار الآليات التي تمكنها من التعاطي مع واقع ما بعد الحرب، وأن تستفيد احزاب “تحالف قوى الحرية والتغيير” – إن بقيَ صامدا ولم يتفكك – من تجاربه السابقة الفاشلة في عدم القدرة في التعامل مع كل مرحلة بتكتيكات تناسبها، فما عادت تكتيكات اللاءات العدمية تجدي، ولا سياسة إقصاء الخصوم تنفع، ولا التهديد باللجوء للسفارات والمجتمع الدولي يخيف، ولا الإرهاب والتهديد بالشارع يثمر، ولا السعي للتسلط على رقاب الناس دون تفويض شعبي عبر اتفاقات ترعاها سفارات ممكنا، فلم ولن تصلُح هذه التكتيكات للمرحلة القادمة. إن مرحلة ما بعد الدعم السريع تتطلب تسريح كل النشطاء وقادة الاحزاب الذين قادوا المرحلة السابقة منذ سبتمبر 2019م معارضةً، وحكماً، وتفاوضاً، وإبدالهم بطواقم جديدة من ذات الاحزاب، تكون قادرة على اختراق المواقف المتصلبة، لها القدرة على التنبوء والقراءة الصحيحة للاحداث، لا تبني مواقفها السياسية والوطنية على ردود الافعال، تتمتع بالمرونه الكافية للحركة في مسرح الاحداث والتعامل مع النظراء، لا يكبلها غباء وثأر وغبن، ولا تدفعها مصالح ومكاسب او مناصب، تتصف بالتجرد المطلق وتتسم بالأمانة والصدق، ليس لها علاقات مشبوهة تضعها هدفا للإتهام بالخيانة والعمالة، رجال دولة وليس مراهقي سياسة.
8
لابد من اعلان حكومة “مجلس وزراء” بعد ان تضع الحرب اوزارها لإدارة شؤون البلاد وملء الفراغ الذي احدثته قرارات 25 اكتوبر 2021م. حكومة تتسم بالرشاقة في عدد مقاعدها، والكفاءة والتجرد في وزرائها، على ان يركز برنامجها في إصلاح الاقتصاد وتحسين معاش الناس، إستتباب الأمن، محاربة الفساد، تهيئة المناخ لإجراء إنتخابات وبذلك تنتهي مغالطة المطالبة بالحكومة المدنية “كلمة حق أريد بها باطل”، فلا يمكن أن تُفرض حكومة على الشعب بالتعيين من احزاب محددة دون تفويض شعبي.
ينبغي ألا يتجاوز عمر الحكومة التي تعقب الاحداث، العام والنصف، تمهيدا لإنتخابات حرة ونزيهة، تُضع لها التدابير والتحوطات الكافية التي تُفضي الى حكومة ديمقراطية بتفويض شعبي كامل، وهذا يتطلب ان تنصرف الاحزاب الى ترتيب صفوفها، ووضع برامجها، والتواصل مع قواعدها، وبناء تحالفاتها مع الاحزاب الأخرى.
جيش وااااحد شعب واحد.