حقوق الإنسانمقالات

الهيئات الولائية.. جنين خارج الرحم

بقلم/ عصام الحكيم:

هذا أقل مايمكن أن يوصف به وضع الهييات الولائية للإذاعة والتلفزيون بالسودان والتي تحولت بموجب القرار (43) للعام 2002 م الصادر في أعقاب مجزرة إعادة هيكلة الهيية القومية للإذاعة والتلفزيون عبر مهندسها آنذاك د.أمين حسن عمر، المدير العام للهيية الذي تصدى وتكفل بمهمة تفتيت البنية التحتية الفنية والهندسية والإدارية للهيية القومية وتفكيك الهيكل الوظيفي للعاملين بالهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون بمهارة يحسد عليها لم يماثله فيها إلا الرئيس السوفيتي الراحل الأسبق ميخائيل غورباتشوف الذي نفذ هو الآخر في العام 1991م مهمة تفكيك وتفتيت الاتحاد السوفيتي ومهد لتقسيمه إلى جمهوريات ودويلات مستقلة منهيا بذلك أسطورة ثنائية القوتين العظمتين في العالم لصالح القطبية الواحدة.

وإن كان د.أمين حسن عمر، قد هندس ذلك المخطط انفاذا لسياسات نظام وموجهات دولة، إلا انه نفذ ذلك بكل صلف وعنجهية جعلته ( يشيل وش القباحة كما يقول اهلنا في الشمال ) وكان القرار شخصيا ومبني على مرارات ذاتية وليس قرارا من  مؤسسات الدولة.

القرار ( 43 ) تم بموجبه إجراء جراحة قاسية قضت بفصل إداري لمحطات الإذاعة والتلفزيون الولائية عن جسم الهئية القومية امع استثناء القطاع الهندسي حيث تم الابقاء على تبعية قطاع الإرسال والبث الإذاعي والتلفزيوني للهيئة الأم، ليس امتيازا أو رأفة لهذا القطاع، ولكن لضمان شمولية البث القومي للجهازين مركزيا لاعتبارات سيادية وأمنية مع أن ذات الاعتبارات كانت كفيلة بنقض القرار نظرا لأن تلك المحطات كانت من ممسكات الوحدة الوطنية والقومية النبيلة وإحدى أدوات وآليات إدارة التنوع في سياق شمول خارطة الرسالة القومية عبر جهازي الإذاعة والتلفزيون المركزيين.

القرار ( 43 ) نص على التزام الدولة اتحاديا بتمويل الفصل الأول للعاملين بتلك المحطات الولائية بعد دمجها في هيئات إقليمية على أن تتحمل حكومات الولايات تمويل الفصل الثاني وتسييرها في وقت كان المركز مصابا بتخمة نفطية بينما تعاني الولايات وتتضور جوعا وتعجز عن دفع مرتبات عامليها وهو مايؤكد أن ذلك القرار كان معيبا ومتعجلا وخاطئا في كل تقديراته إلا أنه مع كل ذلك ظل سارياً لأكثر من عقدين من الزمان ولم يخضع لأي دراسة أو إعادة نظر.

ورغم احتشاد المشهد السياسي والدستوري والإعلامي بالكثير من المتغيرات لكن القرار (43) ظل ولايزال عصيا على المراجعة، بل إن أسوأ مافي القرار (43) مع كل ما حمله من تقديرات خاطئة وظلم بائن بتشريده للمئات من العاملين بالهيئة الأم لم يجد حظه من النفاذ الفعلي الكامل والشامل، فقد تنصل المركز من التزامه بتمويل الفصل الأول وفق منطوق القرار وظل يدفع حفنة منحة شهرية ثابتة من ميزانية الدولة عبر ديوان الحكم الاتحادي كاعتماد مالي للفصل الاول شكلا ولكن من دون أن تتضمن المنحة معدل نسبة نمو سنوي حتى تراعي الهيئات متطلبات تمويل الهياكل الوظيفية للعاملين لمقابلة أوجه الصرف علي العلاوات والبدلات والترقيات وفق تعديلات منشورات الأجور المركزية وفتح سجل للوظائف الجديدة والمستحدثة بجانب الخصم الجاري للتأمين والضمان الاجتماعي حسب الدرجة الوظيفية في الهيكل.

وكما هو متوقع، حاولت حكومات الولايات توفيق أوضاعها لتدارك تداعيات وتبعات القرار ( 43 ) وامتصاص إفرازاته السالبة مهنيا وإنسانيا واجتماعيا وسياسيا فأنشات الهيئات بأمر تأسيس ولائي بمصادقة من مجلس الوزراء وإجازة من المجلس التشريعي بكل ولاية.

لكن هذه الهيئات نشأت بمحددات علاقة تبعية شائهة ووضع قانوني وإداري ومالي مخل ومعقد،  ومع ذلك رفض المركز كل مبادرات إزالة تشوهات القرار بالسماح بقيام اتحاد للهيئات الولائية للإذاعة والتلفزيون يرعى مصالحها ويتبنى قضاياها بل إن وزارة الاعلام الاتحادية اعتبرت أن الدعوة لقيام اتحاد للهيئات الولائية خرق دستوري والتفاف على القرار ( 43 ) ومحاولة لكسر قيوده بقيام جسم إداري إعلامي هلامي للهيئات الولائية مواز للهيئة القومية دون تشريع وسند قانوني.

وسمح المركز علي استحياء للهيئات الولائية بجواز قيام الاتحاد المقترح على ألا تتعدى مهامه حدود التنسيق الشكلي بين الهيئات فقط لأغراض التطوير ورفع القدرات ونقل التجارب وتبادل الخبرات وهو ما أضعف وبدد الأمل في جدوي قيام الاتحاد وعدم فعاليته وفقا لما هو مرتجى ولذلك تم صرف النظر عنه.

ومنذ ذلك الحين ظل الوضع على حاله إلى أن برزت إلى السطح أخيرا اللجنة الخماسية القطاعية للهيئات الولائية للإذاعة والتلفزيون التي طالبت بإلغاء القرار ( 43) أو تنفيذه حرفياً لحفظ حقوق العاملين مع توحيد هياكل هيئات الولايات ودمجه في االهيكل العام للهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون .

لكن مع تعنت المركز وتجاهله لمطالب العاملين بالهيئات دخلت اللجنة في الضغط والتصعيد الإعلامي الذي أوصلها للإضراب والتوقف عن العمل تدريجيا بحسب ما أقرت بذلك مذكرة اللجنة الخماسية التي دفعت بها للمجلس السيادي دون استجابة حتى الآن.

ومع أن قرارات اللجنة الخماسية التي حوتها المذكرة حاسمة وهي في حكم النفاذ إداريا على مستوى الهيئات، لكن تباينت درجة الاستجابة والإذعان لها من قبل الهيئات التي تضامنت وتواثقت في مواقفها الموحدة من القضية، في حين تضاربت في ردود أفعالها حيال آليات الضغط المطلبي ووسائل االتصعيد الإعلامي وتنفيذ قرارات اللجنة.

لكن يعاب على اللجنة الخماسية للهيئات الولائية هو أنها لم تنجح في صناعة كاريزما إعلامية قوية ولم يماثل ويلامس صوتها الحد المطلوب من سقف القضية رغم ما تمتلكه من أدوات مهنية وإعلامية، فعمدت اللجنة لتنفيذ حملتها الإعلامية بشأن التصعيد لقضيتها خلف الأسافير بتمرير مذكرة الإضراب بكل حياء وخجل وتوارت عن الحجب والأنظار دون أن تتكرم مسبقا بعقد مؤتمر صحفي تكتيكي تمهيدي تلويحي في وكالة سونا للانباء بالخرطوم على اقل تقدير أو الصعود للمنابر الإعلامية في القنوات والصحف القومية ومحطاتها الولائية وتنوير الرأي العام بأبعاد القضية والظهور بشكل قوي ومتماسك والتعبير بخطاب مطلبي داو بهدف كسب الجولة في امتار السباق الأولى.

لكن اللجنة أعلنت عن إضرابها بليل فالتزمت به بعض الهيئات وتجاهلته أخرى بينما أرجأته هيئات لحين تلقي الضوء الأخضر من سلطات حكوماتها الولائية، فجاء الإضراب في شكله العام وفي اولي حلقات تصعيده هشا ومتنازعا بحسب تباين ردود فعل إدارات تلك الهيئات التي فيما يبدو تأرجحت وتذبذت في منحنى منعرجات تنفيذ الإضراب بتقاطع قناعات قادتها وإداراتها المتبنية للقضية مع التزامات مناصبهم كجزء من متطلبات حفاظهم على مواقعهم وبقائهم وتشبثهم بها في ظل سيناريو عاصفة التغيير المحتمل.

 

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق