حسام البر:
ماالذي يجمع الناس.. كل الناس.. ماهي المشتركات الأساسية الأولية التي تشكل القاسم المشترك بين كل البشر على اختلاف مشاربهم ، قطعا ليست العقول، القدرات العقلية البحتة والامكانيات الذهنية وحدها، لا تصلح أن تكون قاسم مشترك بين البشر،وربما كانت اقرب لأن تكون عاملا من عوامل فرقة الناس وتشتتهم.
إن الذي يجمع البشرية عندى هو ملكة الشعور، قوى الشعور والإحساس الفطرية الأولية، الساذجة والبسيطة فى قلوب الناس.. فهى “أصدق انباء من الكتب”..وأبلغ فى تراكم نتائجها من ضرب السيوف، بسبب قدرتها على النفاذ إلى حقائق الأشياء متجاوزة بذلك التشويش الذى يمكن أن تصنعه الحواس على العقول.. وذلك يفسر بعض أسباب الشعبية المتزايدة للفنون بمختلف ضروبها بين الجماهير فى كل زمان و مكان، إذ أن الخطاب الفني بحمولاته الإبداعية ينفذ إلى مدارك الوجدان فى الإنسان ويخاطب ملكة الشعور، في المقام الأول.. ومامن خطاب أصيل فى طرحه وخلاق فى عرضه – فى أي مقام كان – إلا وطاب له المقام في الوجدان السليم للناس واستسلمت له العقول الصافية من الإنكدار.. والنفوس الخالية من الاغيار، فيزهر فيها وتتسع مواعينها به زيادة، فيتدفق من قلب لقلب، ويتناسل العمل الفني الخلاق فى انتشاره بمتوالية هندسية تخترق الآفاق ، وذلك هو مصدر القوة الناعمة للفنون التي تشكل رافعة استثنائية وقيمة إضافية تحتفي بها الدول التي تمتلكها والشعوب التي تراعاها وتتطلع إليها.
الشاهد أن ظاهرة غريبة.. تحدث في الشهر الحالي في المشهد السوداني، على الصعيد الفني والإبداعي، الذي تمطره سحابة من الأعمال الدرامية وغيمة إعلانية فاقت في إبداعها الدراما البحتة.. خاصة مجموعة أعمال محمد رشاد التي بلغت محطة متقدمة فى درب الكمال الذى لا ينتهي على مستوى الفكرة والأداء والحوار والتنفيذ والإخراج وصاحب ذلك مراعاة خلاقة وتلقائية للتفاصيل الظاهره “حسيا” والمكتومة “باطنيا” ، فخرج المحتوى ككينونة قائمة بذاتها، تتمتع بنبض داخلي من ذلك النوع الذى تتمتع به الكائنات الحية التي ما أن تولد حتى تطير لتزحم الآفاق وتشارك الناس حياتهم ببهجة ومسرة، رغم أن “إخلاص” مازالت لم تعثر على “حفاظتها” حتى الآن.
وجه الغرابة في هذه الظاهره أنها تمت بلا ترتيب مؤسسي رسمي، وقد كانت في معظمها أعمال مدفوعة بتطلعات أصحابها وعزائمهم ومن قبل كل شيء.. مدفوعة بموهبة أصحاب المواهب منهم.. والأمر الآخر الذي يستدعي الوقوف عليه.. كيف تسنى لهذا الكم الكبير غير المسبوق من الأعمال الرمضانية أن يخرج للنور في زمن العسرة والمسغبة والشح الذي طال كل شيء..؟ كيف يمكن أن يحدث ذلك إلا إذا كان السودان تجتاحه من أعلى السماوات.. رحمات، وتتدفق عليه دفقات من المعنى وزخات من الوعي، تزداد كل يوم ولا تنقص وتنسخ نفسها باستمرار، لتتطور نحو مثال أعلى.. هذه الدفقات لا تبالي بإكراهات الواقع ولا اشتراطاته ويبدو أنها تنتخب مساراتها وفقا لإعتبارات ومعايير خاصة بها لا يعلمها أحد، إذ أن مايحدث فى المشهد الإبداعي الكبير من تخلقات متوالية ماهو إلا أثر بسيط وجانبي من وعي كلي بسبيله للتراكم ليتجاوز منطلقاته الأولى ويحتوش كل الكيان السوداني بكل مشاهده، وذلك يحيلنا لخلاصة بديهية وهى أن بنية المجتمع السودانى في جملتها، أكثر ثراء وقدرة من الكيان المؤسسي للدولة، كما أنها تستبطن ممكنات و استعدادات مسبقة ولامتناهية، ذات طبيعة جينية موغلة فى القدم وذلك ما يجعل الشخصية السودانية نسيجا وحدها بين الناس، فإذا كان هذا الاعتبار صحيحا، فلا بد أن تترتب عليه نتائج عظيمة منظورة وغير منظورة، إذ أن تطور القوة الناعمة للمجتمعات بمختلف مظانها.. يعني أن الفرد يستعيد صوته ومكانته وسيستعصي على الذوبان في الأطر التنظيمية الضيقة بمختلف أنواعها.. وسيصعب تأطيره وتجيير صوته كناعق غريب في البرية لا يلتفت إليه أحد إلا وقت الحاجة، كل ذلك يعني أنه ومهما اشتدت الابتلاءات فإن الدولة السودانية لن تسقط بإذن الله وستدخل في تخلق جديد ينسخ نفسه كل حين ويتجاوز كل التكهنات.
يفهم هذا الأمر على نحو جيد، إذا استطعنا أن ندرك ..أن الدنيا قد دخلت فى بعد أثيري جديد، يغير طبائع الأشياء وينسخ القواعد القديمة ، ومن ثم فقد دخلنا في عصر تجلي المعنى.. عصر الفرد الواحد شديد التأثير.. ومتى ما ارتفعت أصوات جوقة الأفراد بنشيد واحد و بايقاع مختلف الدرجات، يخرج الفرد الواحد الأصيل، المستوي في كمال خلقه وأخلاقه وعلمه، فيستقيم به الأمر كله في لمح البصر.
11/4/2023
