مقالات
عمر رنقو ينشر مراسلات مع د.محمد جلال هاشم
اعتز جدا بأني تلميذ بل وصديق للدكتور محمد جلال هاشم وكنت في كل زيارة له لكوستي احرص علي لقائه والونسة الفكرية حاضرة ومحمد جلال اجمل من يونسك فكريا والبوست الذي ادناه نتاج لبوست كنت قد نشرته مستقطعا جملة من رسالته الصوتية العظيمة فيما حدث له داخل الخرطوم وخروجه وبتر رجله.
ودارت مراسلات جميلة وقيمة وعظيمة جدا بيننا وانشرها بعد إذنه للفائدة العامة رغم رفضه السابق المستمر ولكن بعد إذن عصي:
في محاورة صديقي عمر رنقو
محمد جلال أحمد هاشم
جوبا – 21 يوليو. 2023م
عمر يا رنقو، تحياتي ورسالتي هذه لك وحدك. يعني ما ألقاها حايمة في النت. شايفك جايب لي صورة وكاتب فيها: “آليت على نفسي أن لا أسقط في معيار القيم”. طبعا الكلام دا في عموم صحيح من حيث النوايا والتمنيات، لكن من حيث الإحالة الاقتباسية، هذا كلام غير دقيق.
لا يا صديقي يا عمر رنقو! هذا الكلام بهذه الطريقة مجزوء وغير مكتمل، وبالتالي لا يؤدي المعنى المطلوب.
أنا قلت بأنني لا أسقط في معيار قيمي تحديدا وليس في معيار القيم مرسلا على وجه الإطلاق. بمعنى، لو قلت إنه لا ينبغي لمن تجاوزوا عمر 55 أن يشاركوا في أي منصب سياسي سيادي في حكومة الفترة الانتقالية، هذا بينما أنا على مشارف السبعين، فهذا يعني أنني لن أقبل بأي منصب سياسي سيادي بدءا من المجلس التشريعي صعودا إلى مجلس الوزراء ورئيس الوزراء نفسه، ذلك حتى لو اجتمع عالم الثقلين والتقت كلمتهم واختاروني لأي منصب منها.
لماذا؟ لأني وضعت من تلقاء نفسي معيارا قيميا لمن يستحقون ولمن لا يستحقون أن يشغلوا المناصب السياسية الدستورية، وعليه يتوجب عليّ قبل أي شخص آخر أن التزم بهذه المعايير. لن ولا يمكن أن تجدني قد سقطتُ في معيار قيمي من قبيل الذين سقطوا في معيار قيمهم دون أن يرفّ لهم جفن ممن اعتلوا المنابر وأعلنوا أنهم لن يستوزروا ثم رأيناهم بعد ذلك قد أصبحوا وزراء ثم امتلكوا الجراءة وقوة العين ومشوا بين الناس يتبخترون.
في مثل هذه المواقف، آليتُ على نفسي الأمارة بالسوء وألجمتُها بلجامٍ من حديدٍ محميٍّ بالنار حتى لا تسقط بي في معيار قيمي، وهذا من فضل الله عليّ والله ذو الفضل العظيم.
***
وأنا لا زلت طالبا في الجامعة، ألزمت نفسي بمعيار قيمي خاص بي، ألا وهو أنني لن أكسب عيشي خارج وطني، وأنا وقتها بكلية التربية حيث كانت البعثات التعليمية الخليجية تتسابق كيما تتعاقد مع جميع دفع الخريجين، فرفضتُ وذلك وبقيت بوطني مفضلا أن أعيش فيه فقيرا على أن أنعم ببحبوحة العيش بعيدا عنه.
ولم أذهب إلى بربطانيا للتحضير إلا مضطرا، ذلك عندما سُدّت أمامي أبواب التحضير بجامعة الخرطوم وأنا الموظف فيها ما لم ادفع رسوم التحضير في مخالفة صريحة للأعراف المرعية القاضية بإعفاء أمثالي.
وعندما أكملت دراستي ببريطانيا، دعاني صديقي مو إبراهيم وأخطرني أنه تبرع بأموال طائلة لمدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية SOAS بجامعة لندن دعما منه لإحياء اللغات المهددة بالانقراض، واللغات النوبية (مجال تخصصي) من ضمنها، وأضاف أنه قدم لهم سيرتي الذاتية وقد قبلوها. اعتذرت بلا تردد لأنني ألزمتُ نفسي قبل سنوات بألا أكسب عيشي خارج بلدي، فلم يصدق الرجل الطيب هذا وكاد أن يستشيط غضبا وهو الرجل الهادئ الباسم دوما. وأخبرته أن اللغات المهددة بالانقراض لا يمكن إنقاذها في لندن أو أي مكان آخر، بل فقط بين اهلها وناطقيها. ثم دعاني هذا الرجل الطيب مرة أخرى بعد ذلك بقليل وأخبرني أنه بصدد تأسيس مؤسسة باسمه (Mo Ibrahim Foundation) وأنه يريدني أن اكون ساعده الأيمن، فاعتذرت له دون أن يأخذ الامر مني ولو ثانية وقلت له لو عندك مكتب في الخرطوم، يمكنني أن أديره لك. وهنا لم يتمالك الرجل الطيب نفسه فاستشاط غضبا لأنه لم يفهم لماذا أرفض هذه العروض المغرية. لكنها كانت لحظة اختبار فارقة بالنسبة لي بين أن التزم بمعياري القيمي الذي ألزمتُ به نفسي وأنا طالب في الجامعة قبل سنوات، وبين أن أسقط في معيار قيمي.
***
عندما ذهبت للدراسة في إنكلترا، كان ذلك على نفقتي الخاصة، وللتفرغ أخذت إجازة 5 سنوات بلا مرتب (وهي المدة القصوى المسموح بها)، ولكني تأخرت شهرا واحدا فوق هذه السنوات الخمس، ذلك حتى أخضع للامتحان Viva، ثم لألملم أغراضي، فما كان من إدارة جامعة الخرطوم إلا أن قررت فصلي بسبب التغيب. حدث هذا برغم ترجيات أستاذي وصديقي الدكتور حسن عابدين (سفيرنا بلندن وكان عضو هيئة التدريس بمعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية)، وكذلك ترجيات أبي وأستاذي ومعلمي my mentor بروفيسور هيرمان بيل (عليه رحمة الله)، وكذلك ترجيات مدير جامعة بورتسموث، ذلك بعد انضمامي لها نهائيا بانفضاض شراكتها مع Oxford Academy for Advanced Studies، وكانت الجامعة قد عرضت لي وظيفة محاضر فاعتذرت. كل هؤلاء ترجوا إدارة جامعة الخرطوم بعدم فصلي لانهم كانوا يعلمون علم اليقين بأنني لن أمكث يوما واحدا في بريطانيا بعد نيلي لدرجة الدكتوراة، ولكن (كما قال الفنان) “الصبر قاسي”، وبالفعل فُصلتُ من جامعة الخرطوم. لقد رفضتُ كل هذه العروض التي ذكرتها وأنا أعلم أنني سأعود إلى وطني as a jobless، وبالفعل عدتُ وعملت بمعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية في وظيفة Part-time وظللت أتنقل من مؤسسة جامعية إلى أخرى راضيا وشاكرا ربي أن شد من عزمي حتى لا اسقط في معيار قيمي.
***
نقطة أخرى يا عمر رنقو دعني أحكيها لك انت بالذات من منطلق صداقتنا وحرصي في أن تفهمني جيدا خاصةً بعد أن فرقت بيننا الجغرافيا والسنوات (ليك إنت بالتحديد مش بكرة ألقاها حايمة في النت).
عندما وقع انقلاب الإنقاذ وتخارجنا من سنوات الاعتقالات والاستدعاءات العشوائية بما شملت من بيوت الأشباح سيئة السمعة، ذلك بحلول عام 1992م، دون أن يعني هذا انتهاء عسف نظام الانقاذ وأساليبه الفاشيستية الباطشة، شرع الناس، وأولهم الناشطون سياسيا وفكريا وحركيا، في الهروب الجماعي من السودان لواذا بدول الغرب وأمريكا بوجه خاص. عندها ألزمتُ نفسي بمعيار قيمي خاص بي ولا يخص غيري ولا يخدم كمعيار لكائنٍ من كان بخلافي، ألا وهو: لأن أموت في وطني تحت وطأة التعذيب الممنهج في وطني من قبل نظام الإنقاذ الفاشيستي، أكرم وأرحم لي من أن أعيش محميّاً بسيادة دولة أخرى اصطنعها لنفسه شعب آخر ناجح، بينما عجزنا نحن السودانيين في احترابنا الوطني عن أن نصنع ذلك لفائدة أنفسنا. وبالفعل، لم أخرج من السودان برغم عسف الاعتقالات والتضييق في العيش إلا مضطرا لإكمال دراساتي العليا، لأعود بعدها فورا لوطني لأعيش اغلب سنواتي عاطلا عن العمل أو مدرسا ببعض الجامعات بطريقة ال Part-time.
وكنت إبان تغريبتي الدراسية الاضطرارية أعود للسودان لإكمال المسوحات الحقلية، دون أن أن اتمكن في مرات كثيرة من العودة إلى بريطانيا حسب الموعد المحدد والحجز المسبق في خطوط الطيران، ذلك لتعرضي للاعتقال أو الاحتجاز لسبب أو بدون سبب – لا أدري كما لا يهم. ثم عندما أعود إلى بريطانيا كانت منظمات حقوق الإنسان تتحدث عني وعن ما لاقيته وألاقيه من عنت واعتقال. ولكن رغم كل ذلك لم يخطر لي ولو للحظة عابرة أن أن أتقدم بطلب اللجوء السياسي برغم أن قبوله كان أمرا مؤكدا. كل هذا وأنا أعيش في وطني أغلب وقتي عاطلا عن العمل الدائم والمنتظم. وقد علق على ذلك وبغضب واستغراب أحد أقربائي من ظرفاء النوبيين، وهو يقودني بسيارته إلى مطار هيثرو عائدا إلى وطني بعد شهر واحد ببريطانيا كنت قبلها معتقلا لقرابة الثلاثة أشهر بكوبر ودبك في أعقاب مجزرة كجبار عام 2007م، ودار بيننا الحديث التالي أغلبه باللغة النوبية:
– أعائدٌ انت الآن إلى البلد التي اعتقلتك وفصلتك عن العمل ولا تزال تضطهدك؟
– نعم! لكن التعبير الصحيح هو أنني عائد إلى وطني!
– الوطن الذي أذاقك الأمرّين؟
– نعم! لكنه وطني ووطني هو قدري وأنا لا اهرب من قدري.
هنا بلغ سيلُ الغضب والاستغراش بقريبي الزُّبى، فخبط بيديه على مقود السيارة ونحن على مشارف مطار هيثرو وصرخ قائلا
– يا لخسارة الاعتقالات! يا لخسارة الاعتقالات!
(والمعنى واضح ولا يحتاج الى أي تعقيب).
***
وبعد، يا صديقي عمر يا رنقو، أنا لستُ حُكميّا judgemental على اي شخص هرب من عسف وشطط دولة الإنقاذ المارقة والتجأ إلى ما شاء الله له وقدر من دول، إن شرقا أو غربا. أكثر من ذلك تجدني متفهما لما فعلوه ومتعاطفا معهم فيما عانوه ولا يزالون يعانونه في أوطانهم الجديدة. أما بخصوص شخصيا، فقد ألزمتُ نفسي بمعيار قيمي خاص بي لوحدي دون غيري وكل ما أخشاه – إن أخشى ما أخشاه هو أسقط في معيار قيمي.
لقد اخترت أن أعيش على الكفاف، غنيا ومستغنيا بالقناعة، وأن أربي أسرتي على ذلك، فوفقني الله في هذا وما كنت من عديمي الحيلة لو أني سعيتُ الغنى. كما سخر لي ربي من الأصدقاء الأوفياء من هبوا وتنادوا زرافات ووحدانا لإقالتي من عثراتي متى جار بي الزمان ولا يزال. واخترت بملء إرادتي أن أكون سودانيا بمعنى أن أتصالح مع حقيقة أنني أفريقي أسود يعيش في بلد السود الذي اسمه السودان، ويعتز ببلده هذا وبقارته وبشعوب أفريقيا كلها، وأقسمت ألا أحمل أي جنسية بخلاف جنسية السودان (شمالا كان أو جنوبا، أو كليهما لو منّ ربي عليّ بذلك)، وأحمد الله على أني الآن قد شارفتُ على السبعين وأنا لا أحمل، كما لا أريد أن أحمل، أي جنسية بخلاف جنسية السودان. وعندما ابتلى المولى بلادي بجحافل التتار من جنجويد شذاذ الآفاق وأنا أتنقل من مستشفى إلى أخرى ومن مدينة إلى أخرى وأنا أجرجر قدما معلقة بجسمي باللحم فقط دون العظم، بحثا عن ساعة طمأنينة لبترها، وكلاب الجنجويد وثعالبها تجري خلفي تشتم رائحتي إلى أن حططت الرحال بسنار المحروسة، فبترنا فيها تلك الساق المعلقة سعيدا غير آسف عليها، ثم لم تعد سنار بعد يومين أو ثلاثة هي تلك المدينة المحروسة، وبلغني إخطار السلطات العسكرية والأمنية لإدارة المستشفى بخطورة وضعي أمنيا، أحاط بي الأصدقاء وغير الأصدقاء من كل حدب وصوب وعلى رأسهم ثلة متعاضدة كالجسد الواحد برغم بعد المسافات بينها وعلى رأسهم صديق العمر وحبيب القلب الطبيب النطاسي صاحب الوجه ذي القَبول، فخرجت من سنار تحت جنح الظلام رفقة ابني الحبيب وسندي وفخري، ثم صحبة صديق العمر والزمن الجميل ذلك الثعلب العجوز، بجانب سائق الإسعاف والممرض المرافق له. فإلى أين توجهت يا عمر رنقو؟ لقد هربت مُكرها من السودان، نعم، لكني التجأتُ مُسمِحا إلى السودان أيضا، وما كان ينبغي لي غير ذلك. لقد جئت إلى وطني جنوب السودان وأنا ممدد على نقالة بعد أن عاد الإسعاف ومن فيه وبقيت ومع. لوحدي مع ابني. ودعت سوداني الذي طردني وطاردني، وجئت إلى سوداني الآخر الذي لم يقبلني فحسب، بل استقبلني في نقطة الحدود الفاصلة وجاؤوا لي بشرطتهم وبجيشهم وبمختلف الرتب ثم بطاقم طبي كامل من السلاح الطبي كما لو جاؤوني كما جاء ربَّه موسى على قدرٍ. رحبوا بي وحيوني والدموع تنهمر على خدودهم، ثم جاؤوا لي بسيارة إسعاف من سلاحهم الطبي ونقلوني إلى الرنك وهناك كانت ثلة في انتظاري وهي على أحر من الجمر.
***
ثم قيض الله لي رجلا يملك شركة طيران يصعب وصفه، اتصل به أحد اصدقائي من ذوي قرباي، فإذا به يخصص لي طايرة فوكرز لتحملني إلي جوبا، بل اتصل بي شخصيا، ولا يزال حتى هذه اللحظة يتصل بي. وكم حمدت الله وشكرته على نعمائه عندما تجاذبنا أطراف الحديث لنكتشف أننا نمت إلى بعضنا بقرابة منسية، وطبعا كذلك مع صديقي وقريبي الذي بادر بالاتصال. ألا ما أرحمك يا رب!
***
حدث كل هذا في الرنك وأنا لا احمل بطاقة شخصية ولا جنسية ولا جواز سفر، كما لو جئت إليهم مع طيور مصطفى سيد أحمد التي لا تعرف جوازات السفر. وهكذا هربت من الوطن لألجأ إلى الوطن. كل هذا وأنا أحمل بيدي اليمنى “سبحة” والدتي التي انتزعتها من يدها بعد أن أسلمت الروح قبل أكثر من عشر سنوات، فلم تفارقني أبدا. فقد ظللت طيلة محنتي احمل هذه السبحة وأكرر اسم الجلالة “الله .. الله .. الله”. ففي كل العمليات التي خضعت لها، وأغلبها بدون أي بنج، كنت أحمل بيدي اليمنى سبحة والدتي ولا ينطق لساني بغير اسم الله (عز وجل) يمسك بي ابني ورأسه فوق صدري قويا متماسكا يحاول أن يخفف عني ما لا يمكن وصفه من آلام (وكذلك كان الحال قبل قدوم ابني مع بنت لي طبيبة شابة ليتني أنجبتُها من صلبي).
***
واايوم إذ اتوجه بالشكر والتقدير لكل من وقف معي في محنتي في السودان وخارجه وحول العالم، أقول لهم:
شكرا لكم!
شكرا لكم!
لكنكم لو تعلمون؛
وإنني أعلم أنكم فعلا تعلمون،
ما محنتي إلا سوى هروبنا الكبير،
ذلك عندما تركنا خلفنا الوطن،
فظل واقفا يشاهد الدمارَ والمحن،
يقاوم الزمن!
يقاوم التّتارَ إذ أرادوا له أن يلبس الكفن.
وما دروا بأننا جميعنا نموت بينما يبقى الوطن!
***
وبعد، يا صديقي عمر رنقو، فإنني أحمد الله كثيرا على وافر نعمائه، لكنني أكثر شكرا وامتنانا أن منّ عليّ في محنتي هذه ومحنة الوطن أن أظل في الوطن وألا أغادر الوطن. فأنا بلا وطن مجرد جثة بلا كفن.
اخوك ومحبك
*MJH*
جوبا – 21 يوليو 2023م