مقالات
الجميل الفاضل يكتب: حرب الورثة
سيكتب التاريخ ان حركة صغيرة شرهة، حاولت بالحاح، لأكثر من ثلاثين عاما، أن تزدرد في جوفها الضامر، شعبا عملاقا وافر الكرامة والكبرياء، ودولة ذات صيت وتاريخ، مترامية الأطراف، غص بها حلق الحركة القاصرة القصيرة، التي عانت عسرا في هضم، شعب بقامة شعب السودان، وقطرا بطوله وعرضه وحجمه.
قطرا عبثت به آيادي هذه الحركة الآثمة، فعمدت لتقطيع أوصاله، توهما في أن تشطيره، قد يسهل عليها مهمة ابتلاعه وهضمه.
انظر كيف دبر عراب هذه الحركة دكتور الترابي لحصاد ما نشهده اليوم بقوله: (سيطرنا علي الشرطة، والجيش، والامن، والمجتمع، لتثبيت اركان الحكم، فقد بدانا منذ مرحلة مبكرة الدخول في الجيش للسيطرة عليه، حددنا نحو عشرة الي عشرين سنة، لتنفيذ ما حدث في يونيو (٨٩)، حيث كنت قد اعددت مذكرة سرية للوصول الي السلطة، شاركنا على ضوئها النميري لكي نرتب اوراق هذه المهمة).
هي المهمة المقدسة التي تجعل غالب الإسلاميين يعتقدون الي اليوم ان انقلاب الثلاثين من يونيو جاء ليبقي بأي صورة من الصور، وتحت أي قيادة أو مسمي أو واجهة، إذ يتصور هؤلاء الإسلاميون ان انقلاب (الإنقاذ) يمثل ميلادا لدولة الحركة الإسلامية، التي تعتبر حلما كبيرا، ومكتسبا تاريخيا نادرا لكل حركات الإسلام السياسي بالمنطقة، لا ينبغي التفريط فيه أو السماح بزواله تماما.
وبدا لافتا أن سائر الإسلاميين لا يتقبلون بأي حال من الأحوال التعايش مع فكرة زوال هذه الدولة علي علاتها برمتها، ناهيك عن تصديق انها قد زالت بالفعل، بأمر نزع من مالك الملك جلا وعلا.
المهم هي ذاتها الدولة الزائلة، التي زال بزوالها قبل بضع سنوات، نعيمها وجاهها وسلطانها.
هي الدولة ذاتها التي جادل رئيسها البشير انذاك شيخه الترابي حولها، بعد اعلان الاخير حل الحركة الاسلامية في بواكير عهدها، يروي البشير: قلت للترابي الدولة ملك من يا شيخ حسن؟.. فنحن مقتنعون بأنها ملك للحركة الإسلامية.
واستطرد البشير مذكرا شيخه بأنه يوم ان اتاهم وهم ضباط بالجيش وقال لهم: إن إخوانهم قرروا تسلم السلطة.. اضاف البشير انهم كضباط لم يسألوا الترابي حينها من هم إخوانهم الذين قرروا تسلم السلطة واردف البشير: بل قلنا له سمعا وطاعة.
فقد بات في حكم المؤكد اليوم ان كافة الدلائل التي برزت من خلال وقائع ويوميات الحرب الجارية حاليا في الخرطوم، ان أجهزة الدولة العسكرية ما هي إلا غرفة تحكم وسيطرة سرية لهذه الحركة على الحكم، بل وعلي مصير البلاد.
فالاستاذ المحبوب عبدالسلام في كتابه “الحركة الإسلامية.. دائرة الضوء، وخيوط الظلام” يقول ان الحركة الإسلامية استثمرت انخراطها في المصالحة مع نظام نميري بتوسعها في اختراق الأجهزة النظامية بتجنيد ضباط في الجيش والشرطة، وفي تدريب طائفة من عضويتها المدنية عسكريا، لانفاذ خطة ترمي لحماية الحركة آنذاك، قبل ان تتطور لاحقا لخطة اعداد لاستلام السلطة بانقلاب عسكري وهو ما حدث بعد ذلك في العام (٨٩).
والبشير نفسه اعترف في وثائقيات بثتها قناة العربية بتحكم الحركة وسيطرتها على الدولة بقوله: “الإخوان يتواجدون الان في كل مفاصل الدولة.. كل مفاصل الدولة يمسك بها الاخوان.. والناس الذين عابوا علينا إننا اتينا بالإخوان، الآن شاهدوا ما حصل بمصر، لأن مفاصل الدولة كلها هناك ضد الاخوان، ازالوهم في يوم واحد”.
وعلى عكس ما حدث لإخوان مصر وفق تفسير البشير، فإن الردة والتراجع الكبير عن أهداف ثورة ديسمبر المجيدة بعد انقلاب (البرهان – حميدتي)، الذي قاد لاحقا الي حربهما، يؤكد الآن بما لا يدع مجالا للشك، ان سيطرة الحركة الإسلامية على الجيش وعلي مراكز صناعة القرار في الدولة، لم يتأثر باقتلاع رأس النظام عمر البشير.
وهذا عين ما اكده الاكاديمي الإسلامي الدكتور حسن مكي الذي قال في وقت سابق: في اعتقادي الي عشر سنوات قادمة سيظل الحكم يدور في إطار الإسلاميين.
وعزا مكي اسباب سيطرة الإسلاميين بقوله: اذا كانت هناك ١٠ آلاف وظيفة ستجد ان الإسلاميين يحتلون منها ٨ آلاف وظيفة.
وفي ذات السياق قطع السفير الاسلامي خالد موسى بالقول: لا اتطرف اذا قلت ان حكم السودان دون وجود الإسلاميين يعتبر ضربا من المستحيل في الوقت الراهن، الا اذا تغيرت معادلات الواقع، وهذا لا يلوح في الافق القريب.
ولذلك فإن سودان ما بعد حكم “الإخوان المسلمين” ظل لغزا غامضا وكبيرا.. يصعب تصور كيف يمكن أن يكون، أو لا يكون؟.
إذ يبدو ان من عرفوا بالاسلاميين بات رهانهم الأخير على مؤسسة الجيش التي افرغوا جل جهدهم منذ العام (٧٥) في التدبير والعمل لاحكام قبضتهم عليها.
وبالطبع فان كل تصرفات وقرارت بل وتقاطعات جنرالات انقلاب الخامس والعشرين من اكتوبر التي أفضت للحرب، كانت قد جاءت لتصب في خانة تصديق ان مخطط “الجبهة الإسلامية” القديم قد نجح ليس في الاستيلاء على السلطة فحسب، بل في الاستحواز بالكامل على مقاليد امور هذه المؤسسة القومية المهمة للغاية.. التي يبدو أنها قد اضحت وفق شواهد لا تخفي، غرفة لاستمرار تحكم وسيطرة هذا التنظيم الذي ثار الناس عليه وعلي حكمه الذي امتد لثلاث عقود كاملة.
وفق ما رتب له شيخ الحركة الترابي في مذكرته السرية التي قام بإعدادها قبل ٤٨ عاما بقوله: (بدأنا منذ مرحلة مبكرة، الدخول في الجيش للسيطرة عليه) انها مذكرة أتت أكلها سلطة وجاها توارثها الرجل وتلامذته، قبل ان يورث تنازع هؤلاء الورثة اليوم البلاد وشعبها حربا لا تبقي ولا تذر .