مقالات

جروح السكري وحرب الخرطوم

صوت القلم

د. معاوية عبيد:
رغم أن هنالك صور جميلة ارتسمت علي العديد من جدران قلوب الفارين من حرب الخرطوم الي الولايات ، صور من الكرم الفياض و حفاوة الاستقبال و اقتسام الدار و اللقمة إلا أن هنالك صور منها ما ظل مخبئاً في القلوب و منها ما تم ( تحميضه ) علي الاستديوهات ، هذه الصور كانت مثل جروح السكري من الخارج برأت ، ولكن من الداخل مثقلة بالصديد و القيح .
مرض السكري يقال عليه في العامية مرض غدار بصاحبه ، و جرح السكري اكثر غدراً فهو في ظاهره قد شفي و لكنه في الداخل ينخر في جسم الإنسان و عظامه ( تصيبه بما يسمي بالغرغرينا ) ، وعندما ينتبه مريض السكري يبدأ في معالجة الجرح ولكنه يكتشف أن هذا الجرح غدر به و تعامل معه بسوء نية ، لذلك يلجأ الأطباء إلى بتر جزء من العضو و يظل مريض السكري يبتر جزءا من قدمه أو يده حتي يصل إلى قناعة أن هذا العضو رغم انه اعز عزيز لديه لكنه تعفن و عليه بتره بالكامل ، لأنه ربما يؤدي إلى موته لذلك يسارع في بتره ، بعد أن سبب له آلاما جسيمة.

جاءت حرب الخرطوم اللعينة وخلفت وراءها إفرازات اتضحت انها اخطر من جروح السكري لأنها كانت مغطاة بغشاوة من الجلد في ظاهرها الشفاء و العافية ولكن في باطنها الآلم و الأحقاد الجسام.

اندلعت الحرب وظن الناس انها بين الدعم السريع والجيش و لكن سرعان ما تكشفت الجروح و اتضح انها حرب إبادة جماعية غزو خارجي و تغيير ديمغرافية السودان .

إنها حرب مواجهة ضد اكثر من تسع دول وعاشرتهم كلابهم من بني قحط و الخونة و العملاء و الحرامية .
اندلعت حرب الخرطوم وظن اهلها انها سويعات و تعود البلاد إلى طبيعتها ، فخرجوا منها إلى الاقاليم و استأمنوا جيرانهم على منازلهم ، ولكن انفتحت جروح السكري و سرق الجار جاره ، ووشي علي جاره و انتهك عرضه و سرق ماله و تعاون مع المرتزقة ضد اهله ووطنه .

اندلعت حرب الخرطوم ولجأ أهلها إلى الولايات فمنهم من عاد إلى أهله و اقاربه و منهم من لاذ للايجارات و المعسكرات و المدراس و المؤسسات .
رحب أهل الولايات بإخوتهم و اقاربهم و استقبلوهم احسن استقبال وفتحت لهم القلوب قبل المنازل ، و لكن بعد إطالة أمد الحرب خسر الاهل اهليهم ، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ} [الزمر: 15] و تفتقت جروح السكري ، و فشل الأهل و الأقارب في امتحان الدنيا ، واختلفت النفوس وظهرت المواقف المحزنة و انكشف الغطاء وبانت النواجز واتضح أن ما يبدو على الوجوه من ضحك وبكاء ، فذلك هو المسرح الظاهر الخادع. وتلك هي لبسة الديكور والثياب التنكرية ، أما وراء الكواليس و على مسرح القلوب و كوامن الأسرار تكشفت الحقائق ، فظهر الجشع والطمع في الإيجارات ، اضطر بعضهم للذهاب للمستشفيات و حجز غرفة خاصة اسبوع او عشرة ايام لأجل راحة كبير في السن ، و امتد الطمع لغلاء فاحش في أسعار السلع الضرورية ، و لم تصرف الماهية ، مما اضطر الكثيرين للذهاب للمهن الهامشية ، وفيهم من يحمل الدرجات العليا العلمية والخبرات العملية التراكمية ، لم تصل الاغاثات و الاعانات الي أصحابها الحقيقين . تفتحت جروح اندملت بطول السنين ظهرت بوادر الخلافات بين بعض الأسر الزوجة و اهل الزوج و العكس و الاخوة الأشقاء، والجيران.

ظهرت بوادر الحقد والحسد والشماتة بين الأهل و الجيران و الأصدقاء، ضاق أرض السودان بما رحبت و ظن اهلها انهم قادرين عليها رغم المصائب التي حلت بالعالم من حولهم ، من زلازل و فيضانات و اعاصير .
تفتحت جروح أخرى للذين هاجروا الي خارج البلاد و ظنوا انهم مانعتهم اموالهم ، جاءتهم الخيانات و الغدر من بني جلدتهم و تفتحت جروح السكري عندهم بصورة أفظع حيث الغربة و غلاء الإيجارات ، مما اضطرتهم لافتراش الرصيف و بيع الأعضاء وكسر الاناء ، رغم العناء و العنت و الشقاء آثروا البقاء خوفا من شماتة الاهل والأصدقاء.
نسأل الله أن يرفع البلاء و يعم الرخاء و يلتقي الاحباب و الأصدقاء و يعيش الاهل في مودة وصفاء ويشفي كل مريض بهذا الداء.

 

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق