مقالات
من مصارعة التعايش إلى صراع الوجود
عمر العمر:
أما آن أوان الإنزياح لهذا الجنون المفضي بالوطن ألى الهلاك؟ كيف استطال زمان الهدر والتبديد على جمر العصبية المقيتة في بلد يعرفه العالم برحابة الصبر والتسامح؟ الصراع على السلطة لا يبيح البتة الخوض في مباراة محمومة يتنافس الفرقاء فيها على تدمير البنى التحتية للافراد والشعب حد اقتلاع ركائز الاستقرار كأنها اعجاز نخل خاوية ،فتح فوهات حمامات الدم واشعال شهوة الثأر والإنتقام و نفي أجيال خارج دورة الحياة المألوفةعلى نطاق المعمورة.ما أبعد المسافة بين ماكان عليه الوطن قبل أشهر معدودات وبين حاله الراهن! هذه ليست كلفة الحرب ففاتورة الخراب والنهوض من تحت الأنقاض يدفعها الشعب لاحقا .رفع شعار (لا للحرب)يصبح أغنية رومانسية حين لايصدر في خضم صخب صخاب على الأرض. هل رأيتم أحد مرددي هذا الشعار النبيل بين احد تجمعات المطاردين من بيوتهم!؟
وللمناضلين المثل الأدنى!
في هذه الحرب المجنونة لا يعنيني الإنشغال بتجريم القاتل وتبرئة الضحية. ففي كل الحروب تكون الحقيقة هي الضحية الكبرى . في هذه الحرب القذرةلا يهمني من أطلق الرصاصة الأولى إذ التاريخ يقول المنتصرون هم من يفوزون أولاً ثم يذهبون إلى الحرب،بينما يذهب المنهزمون إلى الحرب للبحث عن إنتصار! وفق أسوأ التقديرات الموضوعية في حق الوطن شعبه ،تاريخه ،أجياله ومكتسباته فقد انتقلنا عبر نار هذه الحرب النتنة من المصارعة في سبيل التعايش إلى الإصطراع من أجل الوجود. حتما لن نخرج جميعا من هذا العراك الدموي المدمر سالمين.كما لن يخرج أيما طرف غانما.في هذه الخسارة الفادحة يستوي الشعب،الجيش والجنجويد.فإذا أفلح المتآمرون القتلة في بعثرة في أودية الشتات لكنهم فإنهم لن ينالوا قط من معنوياته أو يفلوا إرادته .
عند المنعطف الراهن من مجرى الحزن العارم لست معنيا بأمر ترتيب الإتهامات والمحاسبة.فلا يشغلني تحديد من يساهم في تسديد كلفة إزهاق الارواح وتدمير البنايات لكن أناسٌ كثرْ يزعمون معرفة من قبض الثمن .صدقوا أ م كذبوا فالثابت إنه ثمن زهيد خاسر مقابل الخسران الجماعي المبين. بل هو قبضٌ حرام آثم بمعاير الدين والأخلاق.فكما في الحديث الشريف (التجار يُبعثون يوم القيامة فجارا إلا من إتقى الله وصدق) فمابالك بمن يتاجر في حياة وحقوق اليتامى والأرامل والمعذبين .او كما قال الحجاج بن يوسف (وجدت الكذب مع الفجور ووجدت الفجور في النار) فهل ثمة كاذب فاجر أثقل آثاما من أركان حرب الفجار هذه.فهؤلاء لا يعلمون ما للحرب من آداب ،قيم وأخلاقيات.حتى المتحججون منهم بالدين يجهلون توجيه علي بن أبي طالب لجنده(لا تقتلوا مدبراً ولا تجهزوا على جريح).
ابن أبي طالب قال قولة خريج كلية أركان عصرية (الأرض جزءٌ من الجيش فهي ترفع أو تخفض قوته)تلك قاعدة لم تلغها طائرات الفانتوم أو الطائرات المسيرة.هي قاعدة تجبر قادة الترسانة الاسرائيلية رغم الإذلال العسكري المهين على التردد حد العجز أزاء رغبتهم الثأرية في اقتحام غزة. على النافخين في بوق حربنا المجنونة بأنفاس الدين أن يتذكروا أن الله لايؤجل العقاب كله إلى يوم القيامة مثلما لايرحّل الثواب كله إلى الآخرة. كما على الفرقاء المذنبين في حق الشعب إدراك أن من يكسب الحرب ليس من يقهر الطرف المقابل بل من يمتلك قلوب الشعب. هذه حقيقة تنفي زعم وجود إدعاءات مشرفة لممارسة التقتيل أو التدمير. أهم من ذلك فليعلموا أ ن الطرف الخارج من الحرب منتصرا لايستطيع صنع السلام منفرداً. فالسلام انجاز جماعي .
صحيح أي سلام سيء أفضل من هذه الحرب المجنونة. لكن رفع نداء وقف الحرب ليس السبيل الآمن للخروج من تحت غبار الخراب . ربما يسكت اتفاق وقف النار البنادق لكنه لا يصنع سلاما مهما جاءت بلاغة النصوص .فالسلام الدائم يرتكز بعد الجماعة على العدالة. تلك مهمة لا تشغل بال المفاوضين بغية الوصول إلى حفل توقيع وقف النار. ذلك همٌ ينشغل به العارفون بضرورة غرس السلام في النفوس.ففي القلوب والعقول تزهر براعم السلام مثلما فيها تقدح دوما الشرارة الاولى لأي حرب.ثمة ملايين يرغبون في الرجوع إلى بيوتهم المدمرة .هم مستعدون لاستئناف الحياة وسط الركام.لكنهم لن يغفروا لمن دمّر او نهب رحيق كدهم وزهرة حياتهم .لهذا تصبح العدالة لبنة السلم الدائم.
لسنا أول من يرفع شعار(لاللحرب)فثمة شبه إجماع عالمي على أن الحروب ورطة لايخرج منها منتصر حتى حينما تحقق بعض أهدافها.تلك ورطة أميركية في فيتنام، العراق وافغانستان. اتفاق وقف النار هو شهادة على اخفاق المقاتلين في إنجاز أهدافهم المتمحورة دوما في إعادة رسم الخارطة
الجيوسياسية داخل محيط الحرب.قوانا السياسية المنادية بوقف الحرب ليست متورطة في مستنقع الدم لكن هذه البراءة لاتمنحها قوة لدى مخيمات ومجمعات الضحايا او معسكرات القتلة. كما لا تمنحها ثقلا في موازين القوى . لهذا هم مطالبون بمبادرات ميدانية على الأرض تمنحهم ثقلا فاعلا مؤثرا في جهود إطفاء نار الحرب . لا أحد ينكر المخاطروالمهددات . لكن لسلام يستأهل التضحيات الجسام وكلفته أعلى من كلفة الحرب لأنه الطريق إلى الغد.
aloomar@gmail.com