مقالات

الناس الذين كأن علي رؤوسهم السوخوي

بقلم/ مصطفى بشار:

خرجت بعد 63 يوما من الحرب، العبث الذي لعب على أجساد الضحايا، لعب على اجسادنا أياماً عابسة قمطريره.
الطائرات تزمجر فوق رأسي وسمائي. اخالها موجهة لي وحدي. تحدق في بؤبؤ عينيّ. عيناي الرماديتان المنطفئتان من القهر والمقت والخواء، والجوع الذي يلوح بمزراه الريح.
تهيل الحقد. النزف الذي لا يرى! الدموع الحاقنة في المآقي. الدود الذي ينتظرنا في البوابة الرئيسية حين نسقط على أرضه. ودونما مقدمات صحونا على صوت القصف، وشاشات التلفاز تبرق بلمعانٍ غريبٍ. ألغزت علينا الأحجية! وطيور القمري تراوح مكانها بين أسلاك واعمدة الكهرباء وتارة أخرى على سقوف المنازل. ثم تحط اخيراً على أغصان شجرة اللارنج في بيتنا. يتبادل مكانه بين الأخيرة وشجرة المانجو العاقر التي بدت تزهر في أيام الحرب! يا للعبث حين تموت الأشياء، هل تزهر الشجيرات؟!
ألاّ يكفي من الالغاز ان نعيش حياتنا(سينماء).. صور تلاحقنا طوال الوقت. تلقي على عاتقنا عتاباً يخالط شقوة اللحظة؟ وأي وقت فيه ينّز الجرح، ويشخّب من بين الضلوع جملة التذكارات .
الدوي والقصف المتواصل. الأرواح التي تولول قاصدة النجاة لبرزخها الهائل. الناس الذين يغادرون كتبهم وهي في مستوعباتها، خشية ان يتم اتهامهم بأنهم (إنتلجنسيا)! والإتهام يتم من بين طرفي الحرب! والأطعمة التي طبخوها بالمحبة. ووضعوها في البراد، ليتناولوها مع مغيب الشمس. السيدة التي دست مجوهراتها، وحصاد الحياة في مجفف غسالة الملابس ، كان ذلك في اليوم الذي لم تغب فيه الشمس!.
شجرة اللارنج، ومذاق ثمرتها. والقمري الذي يودعنا كل مساء. يترك السماء لترعد فيها الماكينات الخائبة. الفطور ومعجون الفول السوداني. حيا الله جوال الأرز، الذي عاش معي المعركة كاملة، هو ينقص عن محبة، وانا أزداد حنقاً ومقتا. اليوم الذي يتسكع دونما حيثيات، لينقلنا بسرعة إلى الليل الذي نخشاه. الطلقات الهاربة من فوهات البنادق المصقولة . التي تعرف كيف تسلب روحك فقط. جمال تصميمها ما هو إلا تأكيد مستديم لشهوة القتل. و استباحة الدم. الأفق المنغلق بالمنايا. نقتلكم حين نشاء. الشدة والبأس القادمة من الصحارى البعيدة.
رائحة حليب النوق التي تظهر مع عرق الظهيرة التي لا تنفك عبثاً عن وجوه ضائعة. دراجات نارية تنهب الاسفلت نهباً. العدمية التي تطلي كل شيء عند منتصف النهار. هل هو نهاية العالم أم نهاية الأرضين؟ هل الدم المستباح يقطر قبل صوت الرصاصة، لينقل لنا عبثية اللحظة؟ وان الحياة ها هنا قطعة مصقولة من الأسف، تتدحرج من بين انامك كيف تشاء! اذا رميتها بوجه احدهم. سال الشعاع، وأنقلب الزمن مكركراً على حلوقه المجروحة!
في ليالي الحرب الطويلة لا أحد ينجو من عدمية الوجود. صوت الرصاصات الغاضبة بجوف الليل دون أدنى سبب. النشوة التي تأخذ القاتل لأن يلهو بدم الشهيد. دم اقل من قيمة عصفور لا يشدو بروح الأناشيد. ولم نسلب روح عصفور في الأساس، دعك عن روح إنسان كاملة . ولو ان العصفور نفسه مقيد بالبحث عن روح الحياة، الكامنة في تفاصيل العش، الساكنة في تأويل المصيبة، لتغدو كائناً مجنحاً ، او مخلوقا بذي ثلاثة أو سبعة ارجل، ويتنفس حين يريد! ويمشي بأسباب أن الدحرجة لهي لهو الكائن حين يشبع غطرسة، ويظن أنه غادر المخبأ بمزاجه!
قمريتان ، تلتقطان حبات العدس والأرز، أبعثرها لكي تقترب، ففي لحظة الحرب تبحث عن الألفة التي كنت في شاغل عنها لحظات سلامك المصنوع ، وتهرس أطرافك ماكينات البرجوازية، راض بالهرس والدهس. ليتحول في جيبك لوريقات ملونة، تجعلك تركض دون توقف لتلحق بها الشهر القادم! هما حذرتان مثلما تفعل الحياة في كائن خبر الخيانة والغدر قبل ذلك! اعرف أن فرصتي في الحياة ، أن أبذر الحب ، وأن ارقب حذرهما ، واجتهادهما في الالتقاط. تأتي ثالثتهما. تكيد بجناحها لأحدهما. تمنعه من التقاط الحب. توغل في المنع . كنت اعتقد أن هذه الحالة –حالة- بشرية فقط! فإذا بي اجدها عند القمري، الذي كنت أظنه طرفاً محايداً في الحرب! يا سبحان الله!
راقد على السرير في فناء داري، ما عادت الطائرات المقاتلة تعني لي شيئاً، وكيف تخبئ نفسك من قدر بهذا الوضوح؟ أميل بوجهي، لأراقبهم بمزيد من الاهتمام. كما قلت لك، لحظة الحرب، تستعظم التفاصيل التي كنت تتجاهلها سابقا ، لترمح امام ناظريك، وتعطى الوقت قيمة مؤجلة ولو لبعض حين! و انا في حالة عزلة دائمة. بارود يغطى الأنحاء. السماء لم تعد تلك السماء التي ألفها فوق داري! مشحونة بالويل غاصة بالعداء والثبور ، ما بال هذه السماء!!هل ستمطر بعد ان انغلق هذا الجزء من السماء بالسواد؟! هل الحياة نفسها ظاهرة عابرة، بينما تبقى الذكريات هي الأصل؟ ما هذا العبث الذي يلف جمجمتي، ما هذا الهراء؟ هل الموت هو الأصل في هذه المتاهة المنغلقة؟!
أاقتبس من الالواح ، ام من بين لحظات الأرق، حين يصير كائناً يرقد على عينيه، ويعلق سقف أحلامه على الفراغ، مغازلاً الموت الذي يأتي كل ثانية ودقيقة، وساعة ويوما واسبوعاً ، وشهراً. ينفجر ليل العزلة، وصوت الآذان بعيد. الشقاء سلالم لمرتقٍ يصل بعد حين!طيب.

كل طائرة مقاتلة أطلت بصوتها المعيب، توشك أن تؤمي لي . أن هذه لحظتك الأخيرة، فتمنى مع الموت اي فاكهة تنال رضاؤها ، بين كفيك اللتان . تحصنان خوفك كل يوم ، بتلاوة سورة التوبة! كنت كلما سمعت صوت طائرة مقاتلة، تتحرك معدتي، وتوشك أن تخرج محتوياتها. احاول الاّ تحدث لي استجابة شرطية، مع كل صوت طائرة وتمعج معدتي .
بالكاد أوشك أن أتيقن تماماً . انها طائرة تخصني بالموت وحدي. وترمي بحزمة الهلام والمازوت وقطع الشظايا في حقل احلامي الوسيع! يصيبني الضجر. الكوابيس الصاحية قرب معدتي ، وصوت القماري ، أوقن تماماً انها مرسلة لي وحدي.
انا الذي لا يملك عود ثقاب ليحرق بها كفيه، اللتان تنشدان راحة على مدى الزمن، ولا ألقنّ الفؤاد أن يناطق الشهادتان أن يموت دونها. ويحتفل بعنف لحظة اللقاء!
بعد كل ذلك الإيقان . اخرج إلى دروب حارتي الفارغة من سكانها. اتمشى وحيداً، فالجيران غادروا بيوتهم قبل أشهر، وبداية المعارك. في المساء أشعل لمبات انارة الشوارع، ليظن من يظن، ان السكان مازالوا صامدين ولم يغادروا. و أطفئها عند باكر الصباح.
لا اسأل نفسي ما الذي جعلني رهين ارادتي ، ومكتبتي والطحين والمتبقِ من جوال الأرز. وحبات اللارنج ، والتلفاز الذي ينفث الهراء! كلام السادة المنهزمون في معركة الشوارع. الخبراء الذين يمكن ان تنزع من وصفهم الوظيفي حرف باء!
وعندما اخرج للطريق العام. أجد أن بضع من الذين تسوروا حلمي. أن غازلتهم طائرات الموت. أبتسم لست وحدي من يشرب البارود من كؤوس القاذفات اللاهبة!
أعود للمنزل، أرقب شجيراتي. أعزق تربتها. اخلط ترابها بالروث. أتجول في نواحي الحي الخال من السكان. اجد في مكب نفاياتها ، جوالات من روث الماعز. أفرح كثيرا، سينمو الشجر إلى جانبي، سنموت جميعا يوما ما، أُحضر نقالة الروث مسرعاً، هدايا لشجر الموت الذي يستنشق معي البارود. يغالي في إظهار خضرته رغم انعدام الماء. و يأتي الليل والطلقات. الظلمة والتراب التي علمتني أن اميز بين أصوات الطلقات والقذائف، وحين تصيب الأرض والرمل والجسد، وحين تروح مارقة إلى الفضاء، زاعقة و مزمجرةٍ، مثرثرة ونائحةٍ وغادرةٍ.
وحين أغز الخطى في جانب شارع الأسفلت، اجد الأخرين تقاسموا معي سياط اللهب وانغرسوا في جبيني. انا الذي لا يدري لماذا أهوى صدى الطلقات؟ لماذا أساكن القمري؟ لماذا أطلق لعزلتي سيرة الصبوة، امضغ خبزتي الحافية مع ايقاع طلقات المدافع؟!
صحيح انني عشت عزلة في زمان سابق، قبل نحو عقدين من الزمن . سكنت في غابة مشروعنا الزراعي جنوب النيل الأبيض، وحيداً أتسكع بين شجيرات الغابة. اركض خلف حيواناتها الصغيرة ، لكن الآن هذه العزلة تأتي بأسبابها من السماء! القاذفات التي ترمي بشرر. حظك هو الذي يأخذ اليك الشظايا. وبعض حتفك أن ينالك رصاص البنادق ، والليل طويل. ولا تملك سوى حزمة الأمل التي تعد أعوادها واحداً واحداً حتي يحين الصباح. ومن فرط سذاجتك تظن أن الصباح هو الناجي الوحيد، مع القمري والطيور التي لا تعبأ بالحرب كثيراً! وتتفاجأ بأن حتى الصباح يأتي منكفئاً قليلاً، فقد أصابته رصاصات مضاد الطائرات! حتى الصباح جروحه لا تندمل ، ولو أن اكواب قهوة قد اندلقت عليها ، وماج الريح. وخلع النسيم آخر جلباب له والسحب. والحرب تخطت شهران ونصف. لا امل أن تتوقف، صار غير العادي من احداث الحرب هو العادي! لكن هناك أمل أن تنجو البذور. زرعت بذور الباميا شتولاً متفرقةً، بجانب شجرة المانجو العاقر أو التي من سنوات كثيرة لا تثمر ولا تزهر، حتي أزهرت في الحرب! هناك من الكائنات من تجدي معه اللعنات! ارفدها بماء ليليي يجيء متقطعاُ من الصنبور في أخريات الليل . أبذر بذوراً اخرى. ينمو اليقطين متفرقا هنا وهناك . جميل ان معي من يسخرون من هذه الحرب، كلها كائنات لا تنطق، وتجابه الحياه بمعرفتها الأزلية التي جُبِلّت عليها. تسخر من الحرب التي تأخرت عقوداً طويلةً، تراكمت الديون، واورثت البغضاء بين متخاصمين.
لا أدري ماذا سيقولان لله عندما يقفون امامه؟ لماذا قتلنا عباده. لماذا دمرنا زروعه، لماذا سلبنا ناسه الامان؟ لماذا ولماذا؟ وقد يظنان الا ّ قيامة بعد الآن!
كلما أعزق تراب شجرة اللارنج . يزدهي اخضرارها. يجسر القمري المسافة بيننا . وحين ينتشي ، يتعلق بسقف غرفتي. ينازع الخيال في استدراك صورة الوهن. الخاسر في صراع الفيلة العشب والنبات المتطرف الذي ينمو دون عناء.
تقوقي ..تقوقي وتمضي في (القوقوة). كأنها تنقل لي اخبار المعارك التي تدور رحاها بعيداً. قد تخبرني بأن الحياة مازالت زاهرة ، وبأن المعارك التي تدور في اذهان المحاربين ، قد غدت هزائماً مكرورة. وأن للبارود ضغائناً سارت على دروب الأمس. طالت مناكبها روائشاً . بعدها أتي الكاهن الأكبر. التشكيلي موسى ونيس. سيدنا الغارق في صفو اوراده. وابوحازم خازن تواريخ الشاي! ان القمرية تقول: ( ناس الفلول شتتو).( ناس الفلول شتتو). كيف يكون هذا الكلام يا أبانا الكاهن ؟ أنك ستأتي إلينا بالقاذفة ، إذا أزفت الآزفة! لقد علمت القليل القليل من منطق الطير. كنت قبلها تقول : ( الغايبن بجو). الغايبين بجو). انهم سيأتون . يا كاهن أحرق لنا مزيداً من اعواد الجاولي . أطلق بخورك في سماء المرعدات. باعد بيننا وبين(الميج 29). الناس الذين كأن على رؤوسهم (السوخوي)! البنادق المقيتة التي لا تُصِّلي .البندقية الكافرة. الخنادق المحفورة حول عيني من الأرق. الرصاصات الوبيلة التي تدخل من صدغي الأيسر لتخرج من صدغي الأيمن. كان رأسي خاوياً وجبيني بارداً. لما لا يصير رأسي خاوياً، اذا كانت العزلة تصنع خبزي من طحين الوقت ، والعسف الخراب! لم تجد الرصاصة ما تأكله! فلذلك خرجت عن رأسي بعيدا، لأنها لم تجد شيئاً لتقتله.
وكأنها تجدد الوعيد ، لأنها ستأتي قريباً لتنال رضا الوالدين! الذين ارهقهما الوهن. للقمريات أيضا والدين! أي عقوق هاهنا دونته حروفاً هالكةً باسم الضجيج!
اخرج إلى شارع الأسفلت ، كأنه ينتظرني عند الباب، ليأخذني في جولة في الطرقات الخالية . أعبر مجري مائياً يابساً. لم يحن الخريف. رجال المليشيا. يسكنون الشوارع ويشربون الشاي . يقتاتون على اللحم وحده. ملابسهم نظيفة جدا. كأنهم ليسوا في معركة. عجباً عحباً. حين يستهوي احدهم مذاق الشاي. (الباتيل البشد الحيل). طاخ طاخ. يذهب خطوة و احده. ويطلق رصاصات في الهواء. رغبة الشاي التي هي أقوى من الحياة. حين ينسى الناس المعارك، فإنهم يتحولون لأشخاص عاديين يؤثر عليهم مذاق الشاي والقهوة فقط. كيف لنا ان نجعل الناس يحافظون على انسانيتهم لأطول مدى؟ هل نزيد لهم من مقدار النكهة في اكواب شايهم؟ هل نعيد تعديل الاكواب لتأتي على حجم المذاق والمزاج؟
عناوين الكتب الفخيمة التي تركتها ورائي في الخزانة. أهو الجبن أم ضيق الحيوز التي لم تمكنني من جلبها معي؟ وهل يستطيع المرء أن يجلب معه مئات العناوين ساعة الحرب؟ ستكون هباءاً. وارواحنا فداءاً كتباً ضائعة كأسمائنا في فصول العمر. اتعجب من الذي يوقد نار حرب في بلد أصلها رماد!
الخرطوم لم تكن سوى جورباً تالفاً أدمته الثقوب . حارب بها التاريخ. وأقعى صريعاً على الضفاف. أنها في الأصل مضغة من رماد قبل أن تشتعل فيها الحروب! جنرالان خلويان يظنانها متاعاً. وحين دخلوها بجنودهم. تبدد الوهم. انها حاضرة في اذهانهم فقط. أنها لا تنقطع عن مجاري الصرف الصحي. الازدحام البليد في الشوارع. اليأس المعمّى الذي يخلب لب العائد من الأف الكيلومترات! يظن الرصيد المجيد. وانا اهلها في الأصل يعانون المرارات قبل ان تقوم الحروب. انقطاع الكهارب وانعدام الطحين. دماء الحرب المختلطة بماء المصارف. انها عاصمة فقط في الخيال. خيال من يعاني اختلال الجينات. يقصدون نساؤها البدينات انهن شربنّ منقوع العطارة. ودائما التوهم في امتلاء البدن! يظنونها ميزة مباركة. الحقد مترامي الأطراف دون سبب! ويظن ان الخرطوم ستعيد له لوناً مسلوباً منذ الأزل! أو يستعيد انفه الذي يظن مرقته كتائب العربان في التراب. يمكن أن تعيد الفارس للجواد، ولكننا لا نستطيع أن نغّير من منطق الجواد قيد شعرة.
ويمكننا ان نحيل سرجه إلى مقعدا من الذهب، وان نضيئه كهارباً، ومن يواقيت، قد نرصع جانبيهّ! يمكن للسرج أن يعلو قائمة التطور، لكن هيهات للجواد!
ولن يمكننا المديح كله ان نضيف جينة جديدةً لراكب الفرس، الجينة التي تجعله مجوداً لالتقاط الفاكهة، مفضلاً الموز على سائر الأطايب! قد نعود!

بقلم/ مصطفي بشار:

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق