وإن متنا وما ماتت ضمائرنا فتلك حياة الكائن العابر
ولو فرغ الفؤاد من الطَوَى فذاك الفضل في طي المآثر
ما يجب أن تقوله وتقر به الحرية والتغيير:
(علينا التواثق ومجمل الحركة السياسية، على الاعتراف بالأخطاء والاعتذار عنها والعمل على محاربة أهواء النفوس والرغبات الذاتية في العمل العام في أي زمان ومكان)
(1)
هذه محاولة نقد لتجربة الحرية والتغيير في الانتقال تشمل الفترة من 11 أبريل 2019 وحتى تاريخ انقلاب البرهان وزُمرته (25 أكتوبر 2021). وقد اعتمد هذا العمل الوقوف على محطات ربما عدَّها البعض عمومية في شكلها، وربما عدَّها آخرون ذات دلالات وإشارات مخصوصة في محتواها، بحيث تخدم الخط المطلوب في هذا الظرف الحرج الذي تعيشه بلادنا، فهي بذلك ليست نهائية، بل يجب أن تُتبع بالتفصيل والاسهاب؛ وهي كذلك ليست دعوة لجلد الذات أو معولاً إضافياً لتكسير التيارات الديمقراطية لمصلحة التيارات الظلامية، بل هي محاولة لاستبصار بعض الأسباب والمناسبات التي جعلت الانتقال متعثراً، وبعض الأفعال التي ساهمت في إهالة التراب على مشروع الديمقراطية الناشئ، وهي من ناحية أخرى للتأكيد على أن التيارات الظلامية يهزمها الوضوح مهما حاولت ثلم منافذ النور وأوغلت في تدبير الحيل لإفشاء الظلام.
يُشار في هذه النقاط لإعلان الحرية والتغيير وهو الإعلان السياسي الذي وقَّعت عليه وتبنته وأعلنته في 1/1/2019 عشرات المكونات المهنية والسياسية والمدنية والمطلبية وقوى ثورية أخرى من أجل إسقاط نظام البشير والمؤتمر الوطني والقوى السياسية المتحالفة معه. ويُشار إلى (قوى الحرية والتغيير) وهي عبارة قد تعني المجلس المركزي، أو قد تعنى كتلة من الكتل المكونة للحرية والتغيير، أو قد تعنى مجموعة من الأحزاب أو المكونات داخل هذه الكتل خرجت أو لاتزال موجودة داخل التحالف، ابتعدت أو أُبعدت أو اقتربت بسبب اتفاق/ اختلاف رؤى ومواقف، أو تفاوت التأهيل التنظيمي، أو هشاشة/متانة التكوين، أو خفة الوزن/ثقله في خضم العملية السياسية، وذلك وفق موضع هذه الجملة وفهمها في سياق المراجعة المطلوبة.
وُضعت هذه النقاط في شكل معلومات متبوعة بشيء من التحليل والآراء الخاصة بالكاتب استناداً على: وقائع محددة حدثت، واتهامات صدرت من أطراف تجاه أطراف أخرى، أو من إعلاميين وصحف وناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام أخرى، ولم يتم نفيها أو مناقشتها أو تفنيدها بوضوح. كما تستند النقاط بشكل أساسي على فرضية وجود أخطاء تستوجب الاعتراف والاعتذار والوعد بالمراجعة الجادة في المستقبل، لتحسين شروط التحالفات وترفيع العمل من جميع الفاعلين لإنجاز مهمات الانتقال وصولاً للديمقراطية التامة، خاصة مع بروز الحاجة المُلحِّة لاستعادة زخم الثورة على المستوى السياسي والتنظيمي والجماهيري والإعلامي.
الحقيقة إن ما حدث ولايزال يحدث بين القوى السياسية والذي لابد من الوقوف عنده في مثل هذه السانحة، لا يمكن اعتباره انحداراً مفاجئاً في تاريخ بلادنا السياسي أو غيره؛ للأسف، يبدو أن الصراعات والنزاعات أمراً متوارثاً في مجالات شتى، فخلاف أن التاريخ السياسي يحدثنا عن نزاعات حادة وانقسامات رأسية وأفقية في نطاق العمل السياسي، إلا أن مجالنا الاجتماعي والثقافي وحتى الفني حين النظر لهذا التاريخ والحاضر كذلك، لم يسلم من هذه الآفات والانقسامات، علاوة على أن الخلاف بين الأفراد من الرموز المُبدعة الذين أثَّروا في الناس، وأثْروا هذه المجالات بفضل تعاونهم الصميم وتكاملهم البديع، انحدر لحدود سحيقة في بعض الحالات، كانت أقل آثاره، حرمان المُحبين والمُتحمسين من صُنع الحُسن الأخَّاذ وصياغة الذكرى الوسيمة! على أن مما يجدر قوله إن الخلافات السياسية خاصة في أوضاع هشة كهذه، آثارها أسوأ عاقبة وتبعاتها أكثر كارثية، فهي تتحول لانفراط اجتماعي ونزاعات وحروب، وهذا مشهود ومنظور في الوضع الماثل ولا يحتاج لكثير تفصيل.
إن المطلوب من الجميع مؤسسات ومجموعات وأفراد، ليس التأثر بالضغط ووصول مرحلة اللا مناص من أجل الاعتراف بهذه الاخطاء، بل يحب أن يكون الاعتراف والاعتذار بعده، نتيجة لإيمان عميق بضرورة الانزجار، والالتزام بالمراقبة والتصحيح في المستقبل، بداية من الأفراد وصولاً إلى أي مؤسسة، وبهذا فكل ذي صلة بهذه الوقائع وغيرها، لديه مسؤولية أخلاقية وتاريخية، ليقدم إفادته من أجل نفسه أولاً ومن أجل الشهداء والجرحى وكل من آمن بالتغيير وعمل له بصدق وتجرُّد، ومن أجل الثورة ومستقبل الوطن.
يفترض كاتب هذه النقاط أنها ليست شاملة وليست محيطة بكل مجريات الأحداث في الفترة المُشار إليها، ولكنه يرجو أن يُستفاد منها من أي جهة حادبة على البلاد ومستقبلها، في إطار التقييم والنقد الشامل ووضع أسس للعمل السياسي والتنظيمي والتنفيذي، تهتدى بقيم الديمقراطية والشفافية والعدالة والحقوق، كما يتوقع استكمالها وتصويبها من المجموعات والأفراد المعنيين والمهتمين، خاصة الذين تحصلوا على معلومات تجعل ذلك ممكناً.
هذه النقاط تقع في مقام المسؤولية الشخصية من منطلق أن كاتبها كان جزءاً منها بشخصه وأفعاله ولا يمثل حالياً جهة أو تكويناً أو مجموعة، فهو ليس مراقباً صِرفاً بالمعنى البريء، ولكن مبعثها كذلك الشعور بضرورة تعظيم المسؤولية الجماعية، وبهذا يمكن قراءتها وفق (نظرية موت المؤلف)، بحيث تُؤخذ بغض النظر عمن كتبها وموقعه السابق أو الحالي من هذه الوقائع.
وعلى الرغم من أن الكاتب كان بعيداً عن بعض الأحداث بجسده، وبعيداً عن بعضها بحكم موقعه خارج دائرة الفعل والتأثير، أو وجوده داخل دوائر أخرى تمنعه أخلاقياً أو رسمياً أو مهنياً من التدخل والتصحيح، وعلى الرغم من علمه ببعض الأحداث والوقائع بعد وقوعها أو في لحظة تعذَّر معها الاستدراك، يتقدم الكاتب بالنقد الذاتي والاعتذار العلني لمشاركته، صمته، أو حتى تقصيره، أو إمساكه، عن بذل الجهد لتعديل وتصويب ما علم أو رأى أو سمع أو اعتقد أن به ميلاً أو مفارقة لطريق الثورة ووعد التغيير.
لا ينتظر الكاتب جزاءً ولا شكوراً من هذا العمل، كما لا يدفعه الخوف من اللوم أو الطمع في الرضا من إيراد كل كلمة في هذه الورقة، بل دافعه الأصيل هو استرداد المسار الديمقراطي وهو أكثر عافية، والعمل على تحقيق تطلعات الشهداء والجرحى والثوار وقطاعات الشعب السوداني كافة، ولوجه هذا البلد وتطلُّع أهله للحرية والسلام والعدالة والاستقرار والنماء، كما يترصد المكتوب أن يتحسس العسكريون موضعهم فيما ذُكر، فيستدركون شجاعة تجعلهم يفتدون البلاد بمشروع حقيقي للاستقرار وتماسك البلاد، أو بالمقابل يتَّخذون خيار الاستمرار في المواجهة التي لابد أنها ستكون في صالح الشعب في نهاية المطاف وإن طال المسير والسُّرى.
يُتبع
#تجربة_الحرية_والتغيير