منوعات وفنون
الصدى الآخر للأماكن.. “رواية تنتحل خطابات المثقفين ورطاناتهم”
بقلم/ عبدالله رزق أبوسيمازة:
تكاد رواية ( الصدى الآخر للاماكن ) ، للروائية كلثوم فضل الله ، أن تكون قصة حب تقليدية ،على غرار قيس وليلى ،وروميو وجولييت،غير أن النهاية الفاجعة لأحد أبطالها،كما يليق بالأقدار التراجيدية للأشخاص الخارقين وأنصاف الآلهة،تضفي عليها بعداً سياسياً، ومعاصرة.
ولأن الرواية نفسها ، تجنح لأن تكون رواية تمرد،تحتقب خطابات المثقفين وتنتحل ألسنتهم ورطاناتهم،فإنها توغل، بدء من العنوان،في لغة طاعنة في الغموض. وتبدو في مستهلها كقصيدة نثرية مكرسة لتمجيد الماء.الماء في كل تجلياته. لاسيما الراكد منه في جدول. ما قد يوحي بدور له أو بطولة ، لا وجود لها ،فيما يلي من فصول الرواية. ومع ذلك فان المؤلفة/ الراوية اجتهدت لإيجاد موضع له في السياق الروائي، علاقة ما ،بينه وبين العمل (ص 16)، وبينه وبين الشعر: ” الماء قصيدة الشعراء لما يعجزون، ويعجز صفو الماء (ص12)…وبينه وبين الآلهة: “… وكان الماء فكرة تركزت على ذاكرة الآلهة، وتشبعت فانفلتت الى ماء. فصار مركز كل شيء الماء (ص 68). وبينه وبين السيجارة، بما هي “أنثى تمنح المعنى المختلف والمذاق المختلف والخاص والاحساس بالتفرد”، فإنها،أي “السيجارة مثل الماء لمسة وارتعاشة ورائحة ونعومة (ص 18).”
تعنى الرواية باللغة ،خلال وصف الأمكنة والأشخاص والوقائع، بطريقة شاعرية، ترتقي بالمألوف والعادي إلى مافوق المألوف وإلى غير العادي، كما يجدر بالشعر.غير أن الأمر لايخلو من إفراط.حين تخطيء الكتابة المعنى المحدد إلى اللامعنى.تقول منى عمران : ” الشعر ليس مشروعاً نغمياً تبنيه الكلمات المفخخة ،الشعر نحت في الذات بإزميل الوجع … (ص66)”
والرواية ،وهي إذ تنشد العمق، وتستَغْوِر ماوراء المعتاد واليومي، متوسلة بالشعر، تبدو مثل كناية هائلة ،محتشدة بالمجاز ،كطقس إبداعي ضاج بالجرأة، في فضح كل ماهو زائف في العلاقات التي تنسج عرى المجتمع،بما في ذلك العلاقات العاطفية،وما يتخللها من انتهاكات جنسية،تحيل المرأة إلى مركز الرواية.مدرعة بالجرأة ، تشي بشيء ما من غادة السمان ومن نوال السعداوي وربما من إيناس الدغيدي..
يحتشد مجتمع الرواية بفسيفساء من ” نساء مهملات في سلة الغربة، على قاع اللازمان واللامكان” ، بجانب أصدقاء ” مفصومين بانقسامهم بين المكتسب بالمعرفة وبين الثابت بحكم التربية (ص 3).”كما قالت منى لناهد.فهي ليست قصة حب ناهد زيادة وعتيق، والتي انتهت لأن عتيقاً “متناقض”، “وليس على قدر الحب الذي يُمْكِن فيه الجنون (ص )”،ومن ثم ،بداية تعلقها بالكاتب والشاعر الموهوب، عصام مروان، الذي حرمه ماضيه السياسي في الجامعة، كناشط يساري، من الحصول على وظيفة في الكلية ،بعد التخرج، في مرحلة لاحقة، ،حسب ، وإنما هي قصة الطبيبة،د.نهى،الممثلة ” لمنظومة فكرية كاملة وراسخة ومغايرة”،هي بعض شريحة مثقفي البرجوازية الصغيرة، غالباً، ومجدي الباقر، الشاعر،”الذي لم يهزم خطاب المجٍتمع داخله”(ص 77) .
وهي كذلك قصة منى عمران، اليسارية، التي اختطفها الجنود الاربعة وتناوبوا على اغتصابها، وتميم ، مشروع الرسام المدَّعَى، الذي يتوفر على ” خامة من إنسان الفن”، في ظن منى، وقصة عزة وقطبي …الخ.هم أنفسهم، لا أحد غيرهم، كانوا موضع فحص حاتم الصقر، حين اعتزم كتابة رواية،وكانوا محل تساؤلاته، ربما فعلت المؤلفة، الشيء ذاته ،أيضاً، وهي تحقق- في الواقع، بوعي أوبدونه – حلم عصام “بكتاب عار يجلجل في فترينات العرض”… ” كتاب يرقص خلف الزجاج”. ….” كتاب كله فضيحة وحياة ورغبة ، ينبش الأعماق ويعيد إلتئامها على نسق ماينبغى أن يكون.” (ص 36).
” هل تكون البطلة هي منى عمران ، التي كلما اشرقت الشمس ، الرأس قص أثرها،من عطر يعلق بها، ويجعل فيها زفارة الماضي المسكون. كلما اغتسلت لطخوها بالعطر ذاته؟ أم تكون البطلة بدرية المكللة بالوجع؟ هل يكون البطل هو يوسف قطبي الشارد مثلنا؟ أم هو خال عزة ، المنتصرة عيونه الخضراء، على لون مياهنا الآسنة؟ لا.لا. ليس البطل عصام مروان، المنتهك بأحلامه ،التي هي مثل جيش الفتح ، مدججة بالتفاصيل، والتدابير والحذر والحكمة؟ كيف أسمي أشخاص روايتي؟ وكتابتي؟
هل أسميهم بأسماء الذين يكحون على وجهك في قارعة الطريق،أم بأسم عبدالظاهر، الذي هو ظاهر وبارز، وواضح؟ أم تميم المتوازي في الفصام؟
أجاب: لا. بطل الرواية هو أنا. المشتت في هذا الصقيع. بِتِلًّة لم تكتمل ولن تتفتح. أنا الغائب التافه الوحيد ،الرائب العقيم..(ص 158).
” وأيضاً سأل وكثيراً” – وربما جارته المؤلفة في ذلك- : ” من هن شخصيات كتاباتي؟ هل هن الحبيبات المكررات ، الصاعدات نحو ذواتهن، وحالاً ماينزلقن، قبل الوصول في لعبة السلم والثعبان، إلى أسفل. أسفل عتبات البيوت المغلقة والزوج الساتر، ذي المال؟…”
كم من الاصدقاء الذين يشكلون ،”نخبة عارفة “، يجمع بين افرادها عاثر الحب وخيباته، مثلما يجمع بينهم النزوع للتمرد.التمرد على السلطة السياسية ، سلطة المشروع الحضاري، والعائلية والتقاليد والمفاهيم الاجتماعية السائدة. ينبثق هذا التمرد – الذي يلون الرواية، وهي تتابع مصائرهم،وتلاحقهم، وهم يتوزعون بين الهزائم والانكسارات – من وضعهم كمثقفين ،كشريحة اجتماعية متعالية، بما لها من وعي وتميز،تمارس نفسها عبر الفنون : الموسيقى والتشكيل والشعر.هي رواية المثقفين عن المثقفين،حين تحتقب خطاباتهم وتنتحل ألسنتهم ورطاناتهم، مراياهم، حيث تتبدَّى علاقاتهم فيما بينهم، وفي علاقاتهم بالآخر…بالعالم الذي يرفضونه ويرفضهم، ويقاومون- عبثاً- محاولاته لاعتقالهم في قوالبه وتصنيفاته الجاهزة.
يحتج عصام عمران، اليساري، الذي يحلم بالتحول الاشتراكي، على منى، مستنكراً: ” لست مثقفاً، ما حملت- يوماً- معي كتاباً ولا تباهيت بالمعرفة ولا برَّمت شعري ،وملابسي نظيفة. لماذا هذا التنميط يا منى عمران ؟”(ص51)
د.نهى، بدورها، تستنكر علاقة ناهد بعتيق، ذي الشعر المبروم، المهووس بعشق الموسيقى، وتسألها:
” آنسة ناهد ،ماذا تحبين في هذا العتيق؟ اتساخ ملابسه؟شعره المبروم؟ فقره ؟ بطالته ؟ حلمه الفقير بالسفر الذي لن ينضح ؟ ام الوهم؟ (ص 23)”
تلاحق الرواية، دون إفراط، تفاصيل حياة ناهد زيادة، وهي تنتقل من موقف لآخر، وهي تنبثق ، فجأة ، من زحام الحياة اليومية،بين الخرطوم وبحري، وعبركوبري النيل الأزرق، ” عانساً، وحيدة، منبوذة، مخذولة، مفعولة ،م نعولة.. ..الخ”، ثم ” ملموسة بأصابع الذين غادروا، والذين أنخذلوا، والذين لم يأتوا ،واستحالت لمساتهم إلى سرف حنين لاينضب.” إلى آخر صرختها، فوق كوبري النيل الأزرق،بينما كانت مياهه تجرف جثث طلاب الخدمة الالزامية الذين حصدهم الرصاص، والموج. ومع ذلك هي مثقفة ذكية ومتمردة، ومهمومة بكتابة الشعر، وناشطة سياسية.” قالت ناهد : الكتابة انفلاتة حينما لاتكون موضوعها. لحظة شطح ( ص 3).” ففي ومضات خاطفة، تلتمع قصص الآخرين، تتقاطع مع القصة الرئيسية، قصتها، في سلاسة ،دون أن تؤثر على تتابع السرد، غير أنها تفرد حيزاً لإضاءة أبعاد من حياة منى عمران،وحيزاً ثانياً، لعصام مروان،الذي تختتم بمصرعه الرواية.