جراح الطفولة في زمن الحرب

تعاني الأمهات من واقع مرير جراء القتال في دارفور- (الجزيرة)
بناء سودان ما بعد الحرب لا يمكن أن يتم دون ترميم الطفولة التي دمّرتها الحرب
الحماية الحقيقية تبدأ من توفير المعلومة وضمان المساءلة وتعزيز المشاركة المجتمعية وهي مسؤولية دولية تضع الأطفال في المقدمة، باعتبارهم الركيزة الأساسية لأي مستقبل آمن ومستقر.
تحقيق- حنان الطيب:
في قلب الحرب التي مزّقت السودان، يتوارى جرحٌ لا يُرى بالعين المجردة، لكنه ينهش أرواح الأطفال بصمتٍ. منذ بداية عام 2025، تم تسجيل ما لا يقل عن 221 حالة اغتصاب لأطفال في تسع ولايات سودانية، وفقًا لتقارير اليونيسف. من بين هؤلاء الضحايا، كانت 66% فتيات، و16 طفلًا دون سن الخامسة، بينهم 4 رُضّع بعمر سنة واحدة. في بلدٍ تتكسر فيه القوانين تحت وطأة الحرب، لا يعود الجسد الطفولي محميًا.
خلف كل رقم في الإحصائيات، هناك وجه، ودمعة، وصرخة لم تُسمع.فيما كشف المجلس القومي للطفولة عن رصد 149 حالة اغتصاب في اكتوبر بمنطقتي الجزيرة وسنار.
هذه الأرقام، رغم فداحتها، لا تعكس سوى قمة جبل الجليد، إذ يظل معظم الناجين في الظل، خائفين من الوصمة، أو عاجزين عن الوصول إلى الدعم.
في هذا التحقيق، نفتح أبواب الصمت، وننقل شهادات الضحايا، ونرصد كيف تتحول أجساد الأطفال إلى ساحات حرب أخرى، لا تقل دموية عن الرصاص.

تنزف بصمت
تقول والدة الطفلة( ع، م)البالغة من العمر سبع سنوات بألم شديد طفلتي كانت تلعب أمام مركز الإيواء اختفت فجأة. بعد ساعات من البحث، وُجدتها خلف مبنى مهجور، تنزف بصمت.و ترتجف، ولم تنطق بكلمة. كل ما فعلته هو أنها مدت يدها نحوي، ثم أغمضت عينيها.”تم نقلها إلى مركز صحي، لكنها لا تزال ترفض الكلام. الأطباء يقولون إن الصدمة النفسية قد تستمر لسنوات.
خوفا من الانتقام..
فيما قالت والدة الطفلة (ح ، د) البالغة من العمر تسعة سنوات من إحدى الولايات، كانت نائمة بجواري في خيمة مشتركة مع ثلاث أسر. في منتصف الليل، اقتحم رجل مسلح الخيمة واعتدى عليها.
تقول. أمها. “كنت نائمة، ولم أسمع شيئًا. في الصباح، وجدت دمًا على ملابسها. لم أصدق. ظننت أنها أصيبت في قدمها، لكنها همست لي: ‘هو لمسني’.”الأسرة اضطرت للانتقال إلى ولاية أخرى خوفًا من الانتقام، ولم تُبلغ السلطات.
تحدثت اسرة الطفلة ( س،ر) اربعة سنوات
كانت برفقة خالتها في طريق العودة من السوق. تم اختطافها من قبل مجموعة مجهولة، وعُثر عليها بعد يومين في حالة حرجة. تقول خالتها “كانت لا تتكلم، فقط تنظر إلى السقف. لم تعد تتفاعل مع أحد. حتى لعبتها المفضلة لم تلمسها.”
الأسرة قررت عدم الحديث عن الأمر خوفًا من الوصمة المجتمعية ، وتم الاكتفاء بعلاجها في مركز خاص بعيدًا عن المنطقة.
هذه القصص ليست استثناءً، بل نماذج لصمتٍ جماعي يفرضه الخوف والعار. في ظل غياب العدالة، يتحول الألم إلى عبءٍ يومي، تحمله الأمهات والطفلات وحدهن.

عقوبات رادعة..
طالب حقوقيون وناشطون في حماية الطفل بـتشديد الرقابة على المدارس وتطبيق العقوبات الرادعة على مرتكبي جرائم الاعتداء الجنسي ضد الأطفال اشاروا لاغتصاب معلم تربية إسلامية في مدينة الابيض لطفلة بالغة من العمر ثمانية سنوات ، اغتصبها بعد انتهاء الدوام، بعد عودتها إلى المنزل، حيث لاحظت أسرتها تغيرًا في سلوكها، وبعد استجوابها، كشفت الطفلة عن الجريمة التي تعرضت لها.بالاضافة لقصة شرطي المرور الذي اغتصب طفل عمره سبع سنوات بولاية الحزيرة. ذكروا ان هذه الجرائم البشعة
أثارت ردود افعال غضبًا واسعًا في الشارع السوداني، واعتُبرت مؤشرًا خطيرًا على تكرار الاعتداءات في المؤسسات التعليمية.
٥٤ حالة خلال شهر..
فيما كشفت تقارير حملة معا ضد الاغتصاب الجنسي في السودان عن توثيق ٥٤ حالة اغتصاب جديدة في الفترة ٣٠ يونيو ٢٠٢٣ حتي 30 يوليو ٢٠٢٤ من بينهم ٥ طفلات وفقا لليونسيف في مارس من العام الحالي، منوها ان “الناجون وأسرهم غالبًا لا يبلغون عن الانتهاكات بسبب الخوف أو العجز عن الوصول إلى الدعم.
٣٢ حالة بالفاشر
خلال أسبوع واحد فقط في نوفمبر 2025، سجّلت شبكة أطباء السودان ما لا يقل عن 32 حالة اغتصاب مؤكدة بحق فتيات من مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور. وقعت بعض هذه الجرائم داخل المدينة عقب اجتياح قوات الدعم السريع، فيما ارتُكبت أخرى أثناء محاولة الناجيات الفرار باتجاه بلدة طويلة.
ووصفت الشبكة هذه الاعتداءات بأنها انتهاكات جسيمة ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، مؤكدة أنها تمثل خرقًا واضحًا للقانون الدولي الإنساني. كما شددت على تحميل قوات الدعم السريع المسؤولية المباشرة، وطالبت بفتح تحقيق دولي عاجل ومستقل، مع ضمان حماية الناجيات والشهود، ومنع إفلات الجناة من العقاب.

جراح لا تُرى..
بحسب اختصاصيو علم النفس، ان الأطفال الذين يتعرضون للاغتصاب في سياق النزاعات المسلحة يعانون من آثار نفسية طويلة الأمد، تتجاوز الجرح الجسدي إلى تشوهات في النمو العاطفي والسلوكي. كاضطراب ما بعد الصدمة والكوابيس المتكررة، نوبات هلع، والتبول اللاارادي والعزلة و تجنب الأماكن أو الأشخاص المرتبطين بالحادثة وفقدان الشعور بالامان .وغيرها من الاضطرابات.
١٩ مليون طفل
منذا اندلاع الحرب في عام 2023، أكدت الدكتورة أميرة أزهري المجلس القومي لرعاية الطفولة أن البلاد شهدت انهياراً واسعاً في الهياكل الأمنية والخدمية، الأمر الذي انعكس بصورة خطيرة على الفئات الضعيفة، وفي مقدمتهم الأطفال. ووفقاً لتقارير اليونيسف (2024-2025)، أدى النزاع إلى واحدة من أسوأ أزمات الطفولة في إفريقيا، حيث أصبح أكثر من 19 مليون طفل في السودان بحاجة ماسة إلى مساعدات إنسانية، بما في ذلك الحماية من العنف الجنسي.
وفي تقريرها الصادر في يوليو 2025 حول حماية الأطفال في أوقات الحرب والسلم، أوضحت أن النزاع أدى إلى ارتفاع ملحوظ في حوادث العنف الجنسي، خاصة في مناطق النزوح، مع ورود تقارير عن استغلال جنسي لفتيات قاصرات مقابل الغذاء أو الحماية. كما وثقت حالات اغتصاب جماعي استخدم فيها العنف الجنسي كسلاح حرب لترهيب المجتمعات، وذلك بحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان (2024).
مبنية على التقديرات..
وأشارت إلى غياب قاعدة بيانات وطنية موحدة لتسجيل البلاغات والانتهاكات، وضعف التنسيق بين الوزارات والمنظمات والفاعلين المحليين، إضافة إلى تعطل آليات المتابعة والتقييم. ونتيجة لذلك، أصبحت السياسات والبرامج مبنية على التقديرات والافتراضات بدلاً من الواقع الموثق.

لبيانات الطفولة
اقترحت الدكتورة أميرة إنشاء وحدة وطنية مركزية لرصد بيانات الطفولة في النزاع، تكون تابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية أو تعمل بالشراكة مع الجهاز المركزي للإحصاء. هذه الوحدة، بحسب تصورها، ستتولى جمع وتحليل وتحديث بيانات الانتهاكات والنزوح والتدخلات، مع اعتماد أدوات رقمية مبسطة يمكن تشغيلها حتى في البيئات منخفضة الاتصال. كما ستشرف على إصدار تقارير فصلية تغذي القرار الوطني بالمعلومات الدقيقة، إلى جانب تدريب كوادر محلية في الولايات على الرصد والتوثيق والتدخل النفسي والاجتماعي، وتكوين شبكات إنذار مبكر مجتمعية لمتابعة الأطفال المعرّضين للخطر.
تحديات جسيمة
تابعت رغم وضوح الأطر القانونية الدولية والإقليمية والوطنية الخاصة بحماية الطفولة، إلا أن الواقع يكشف عن تحديات جسيمة تعيق تحقيق هذه الحماية. التقرير أشار إلى أن ضعف آليات إنفاذ القانون المحلي وغياب المساءلة في حالات الانتهاكات، إضافة إلى هشاشة البنية المؤسسية خلال النزاعات، كلها عوامل تجعل الأطفال أكثر عرضة للخطر. كما أن قصور الآليات الوطنية في جمع البيانات ورصدها بشكل فعّال، إلى جانب ضعف الوعي المجتمعي بالحقوق والآليات القانونية، يفاقم من حجم الأزمة.
شددت د ازهري على أن هذه التحديات لا تحتمل التأجيل، وأن معالجتها تتطلب بناء قدرات أجهزة إنفاذ القانون، وتعزيز نظم المراقبة والمحاسبة، فضلاً عن مواجهة مشكلة النقص الحاد في البيانات التي تُعد أساس أي تدخل فعّال.

اضطرابات ما بعد الصدمة..
في جانب آخر، تناول التقرير الآثار النفسية العميقة التي يخلفها النزاع المسلح على الأطفال، مؤكداً أن هذه الآثار تتجاوز الإصابات الجسدية لتطال البنية العاطفية والإدراكية للطفل، وتؤثر سلباً على نموه السلوكي والعقلي. تقارير ميدانية صادرة عن منظمات إنسانية رصدت تنامي اضطرابات ما بعد الصدمة بين الأطفال، خاصة أولئك الذين شهدوا أعمال العنف مباشرة. الدكتورة أميرة دعت في هذا السياق إلى تعزيز القدرات المحلية واللامركزية لحماية الأطفال من العنف، باعتبار أن التدخل النفسي والاجتماعي لا يقل أهمية عن التدخل القانوني.
منظومة طوارئ..
ولم يكتف التقرير بالتشخيص، بل قدّم توصيات عملية، أبرزها دعوة وزارة الشؤون الاجتماعية والمجلس القومي لرعاية الطفولة إلى إنشاء منظومة طوارئ متكاملة لجمع وتحليل بيانات الأطفال المتضررين، بدعم مباشر من مجلس الوزراء. وأكد أن هذه الخطوة يجب أن تُعتبر أولوية سيادية عاجلة، حتى ولو بأبسط الوسائل الميدانية الممكنة، لأن أي استراتيجية لحماية الأطفال ستظل ناقصة وغير فعّالة ما لم يُؤسس فوراً نظام وطني بسيط وفعّال لجمع وتحليل بيانات الطفولة في النزاعات.
التقرير ختم برسالة قوية مفادها أن بناء سودان ما بعد الحرب لا يمكن أن يتم دون ترميم الطفولة التي دمّرتها الحرب، وأن الحماية الحقيقية تبدأ من توفير المعلومة وضمان المساءلة وتعزيز المشاركة المجتمعية. وهي مسؤولية دولية تضع الأطفال في المقدمة، باعتبارهم الركيزة الأساسية لأي مستقبل آمن ومستقر.

من المحررة..
حاولت الحصول على تقارير المجلس القومي لرعاية الطفولة ووحدة مكافحة العنف ضد المرأة والطفل، لكن لم أتلقَ أي رد على تساؤلاتي المتعلقة بالمعلومات والإحصاءات. إن غياب هذه البيانات الرسمية يعرقل جهود التوثيق والمساءلة، ويضعف الاستجابة الوطنية لحماية النساء والأطفال في ظل الانتهاكات المتزايدة.


