مقالات
الجميل الفاضل يكتب: سؤال “الثورة” في زمن الحرب؟!
وإذ يَسألونَكَ عنِ الثورةِ.. قُل إن “الثورة” ضرب من الطهارة، لا يَعرفُها إلا من تَذوقَ حَالُها، وأرتقي بمِثالِها، فإرتبط مآله في النهاية بمآلها.
إذ للطهارة الثورية في الحقيقة أربعة مراحلٍ:
أولها: تَطهيرُ الضّميرِ كما ينبغي أن يكون، حيَّاً وحُراً، لا تَزويهِ غَفلةٌ، ولا يَعتريهِ سُباتْ.
وثانيها: تَطهيرُ الذَاتِ من سَطوةِ حُبِ الذاتِ، ومن قَيدِ “الأنا”.
وثالثها: تطهير القلوب من رذائل الخوف، وكافة الأطماعِ “الدُنا”.
ورابعها: تَطهيرُ النُفوسِ من شَهواتِ النُفوسِ، ومن عِللٍ تُغرِقها في أوحالِ الخِزيِ و”الخَنا”.
المهم فإن الثورة حالةٌ تَطهُريةٌ بإمتياز، لا تَقبلُ دنسَ المُساومةِ، ولا تَعرفُ أنصافَ حُلولْ.
إذ أن من يقومُ بنصفِ ثورةٍ، علي رأي “ماو تسي تونغ”: “كمن يَحفِرُ قَبرهُ بِيديهِ”.
ومن هنا نشأ إيمان عميق خاطب به “المهاتما غاندي” كل مُستبدٍ، في أي مكانٍ، وأي زمانْ، قائلا: “يُمكنكَ قتلُ الثُوارِ، لكن لا يُمكنكَ قَتلُ الثورة”.
بل أن “ارنستو شي جيفارا”، قد وصف من يظنون بغير ظن “المهاتما” أنهم أغبياء، قائلا: “لا يزالُ الأغبياء يتصورونَ أن الثورة قابلة للهزيمة”.
إذ لا يخلو زمان في ظني من “أغبياءَ”، ظلوا أوفياءَ جدا علي مَرِ التجارب والسنين لوصف “جيفارا” هذا.
أغبياء لا زالوا يتصورون أن “الثورةَ” قابلةٌ للهزيمة، وأنها يُمكِنْ قَتلُها، لطالما أنهم كانوا قادرين علي دهسِ، وقَنصِ، وقَتلِ، المزيد من ثُوارها، أو حتي بإشعالھم نار حرب عبثية عقيمة، لا زالوا عاكفين عليھا، لقطع طريق الثورة المتحور الطويل.
بل وأغبياءَ ضُعفاءَ آخرين ربما، إعتراهم شيئاً من يَأسٍ، أو رَهقْ في المَسير، ظلوا يحفرونَ كذلك بدأب شديد، قبورهم بأيديهم وأيدي سواهم، دون الأخذ بحكمةِ ونُصحِ “ماو”.
أغبياء هم أيضا قد إكتفوا فيما يبدو بنصف ثورة لم يُكملوا طريقها، الذي أرادوا الآن الأوبةَ من مُنتصفهِ، المحفوفِ بفخاخٍ، ومنزلقاتٍ، ومخاطر، تُحاصرهُ وتَلتفُ عليه، كإستدارة السوار بالمعصم من كل جانب.
فالسودان مهد وملاذ وموئل ثورات وثوار العالم، هو نفسه “أرض الصدق” التي وصفها نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، ودار الهجرتين، وفق روايتي عالمين ضليعين، حازا سهما وافرا من علمي الظاهر والباطن، هما البروفيسران “حسن الفاتح قريب الله، وعبدالله الطيب”.
فقد زار السودان في العام (١٩٦٢) رمز الثورة العالمية “جيفارا” نفسه الذي منح جوازا سودانيا، قبل أن تغتاله المخابرات الأمريكية في بوليفيا سنة (١٩٦٧).
كما زار سودان الثورات “نيلسون مانديلا” ايقونة النضال الأفريقي الذي منح هو ايضا جوازا سودانيا.
وكذا فقد زار أرض هجرة ثوار الأرض، “ستوكلي كار مايكل” زعيم حركة الفهود السود الأمريكية المناهضة للتمييز العنصري.
وبالطبع فقد زارت السودان مرارا وتكررا المطربة الثورية “مريم ماكيبا”.
وهكذا كان ديدن الخرطوم التي إلتأم علي أرضها في العام (١٩٧٠) المناضلون من كافة أرجاء القارة السمراء “اوغستينو نيتو” الذي أصبح رئيسا لانغولا، و”سامورا ميشيل” اول رئيس لموزمبيق، و”سام انغوما” الذي اضحي اول رئيس لناميبيا، مع لفيف من رموز حركات التحرر الافريقية.
المھم فإن علاقة ثورة ديسمبر المجيدة، بحرب أبريل اللعينة، تظل علاقة جدلية عميقة ومركبة.
شأنها شأن كل المعارك التي ظلت تنشأ منذ الأزل، بين سدنة الحق، والخير، والجمال، وأھل الباطل، والشَّر، والقُبح.
فقد قدمت الثورة بإنسانياتھا الراقية، أھل السودان للعالم في أبھي وأنضر وجه، في وقت أبرزت فيه الحرب أسوأ، وأقبح، وأبشع، صورة لھذا الشعب.
تري ھل ھذه الحرب إمتداد لحالة الثورة بطريقة أخري؟ أم أنھا أثر من آثارھا؟، وتداعي من تداعياتھا الكثيرة والمريرة؟.
أم أنھا كرامة من كرامات ھذه الثورة المباركة؟، التي يكاد زيتھا يضيء في كل حين وآن، ولو لم تمسسه في النھاية نار.
ومن ھنا أتصور إن إرتباط ھذه الحرب بالثورة، إرتباط عميق للغاية.
فثورة ديسمبر، ثورة بالعمق، من شأنها أن تنبسط حيثما شاءت، تعتمل ميكانزماتھا الداخلية بقوة عاصفة.. تفور وتمور بأمر ربھا، موجة بعد أخري.
إذ.. ھذه الموجة تعلو
تلو الموجة تلك
ولا تغفو أبدآ
فھذا زمن المّد أتي.
ولا أزيد.