سياحة وآثار وتراث
كبوشية.. بستان التاريخ وعطر الغناء
أغنية الحقيبة انتقلت إلى أم درمان من كبوشية عبر الفنان محمد ودالفكي
بقلم/هشام عباس:
عند السفر من عطبرة إلى الخرطوم لاشك أن المسافر في هذه الرحلة سوف يعبر التاريخ، لأنه سيمر بإهرامات البجراوية ومنطقة كبوشية العريقة العاصمة الوطنية الأولى للسودان.
وآثار البجراوية يسميها أهل المنطقة المحليين (الطرابيل) وهي تقع في منتصف المسافة بين قرية (أم علي) وقرية كبوشية (تقريباً) وهي محاذية لقرية (قدو) شرقاً، وغرب النيل أمام كبوشية توجد قرية (قوز بدر) وقد ارتبطت كل القرى حول (كبوشية) بها سواءً كان هذا الارتباط ثقافياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً أو تعليمياً فانعكس تأثيرها على قرى الكناوين وقلعة الشايقية والكبوشاب وديم القراي وقوز الحاج وتميد حاج الطاهر والمسيكتاب حتى قرى غرب النيل مثل كلي وقوز الحاج وبقروسي وجوير سلمان والمغاوير حتى المتمة.
ويعتبر سوق (الأربعاء) بكبوشية هو الجامع لسكان هذه المناطق.
وذكر المؤرخ السوداني المرحوم حسن نجيلة، في كتابه الرائد ملامح من المجتمع السوداني عنواناً أثار انتباهي حيث كتب تحت عنوان كبير(فن كبوشية يغزو العاصمة القومية) والمعروف أن هذا الكتاب يؤرخ لأهم الأحداث في فترة العشرينات والثلاثنيات في السودان من القرن الماضي، وقد وصل ( نجيلة) إلى أن أغنية الحقيبة انتقلت إلى أم درمان من كبوشية، فأمدرمان في تلكم الفترة كانت تعرف أشعار (الطمبارة) وهى نغمات الطمبور المنبعثة في حناجر فنانين تخصصوا في هذا النوع من الأداء وليس لها علاقة بآلة الطمبور، وماكانت أم درمان تعرف سوى الدوبيت.
وبأسلوبه الأدبى الجذاب في سرد التاريخ يكتب:”في حوالي عام 1900م جاء إلى الخرطوم من كبوشية فتى أنيق وسيم ، وسامته تلفت الأنظار، أسمر اللون ، على خديه وشمان صغيران (درب طير) تضاعفان من وسامته على مفهوم الوسامة آنذاك ، مربوع القامة ليس بالبدين ولا الهزيل، يلبس قميصاً يتدلى إلى مابعد الركبتين قليلاً ويتلفح بثوب أنيق، ملابسه دائماً نظيفة بيضاء، مهذب حلو الحديث، رقيق الطبع، شديد الحياء في غير تصنع ولاغرو، فوالده من رجال الدين والعلم المعروفين في كبوشية ومن حملة القرآن الكريم، يفد إليه الطلاب من أماكن بعيدة ليحفظوا عليه القرآن الكريم، وقد تلقى هذا الفتى الوسيم الأنيق القرآن من خلوة والده ثم عشق الغناء إذ كان يتمتع بصوت يأخذ بمجامع القلوب، وإسم هذا الفتى ( محمد ود الفكي)” .
جاء إلى أم درمان يحمل فناً جديداً وصوتاً أخاذاً متحملاً في سبيل ذلك نقمة والده الذى كبر عليه أن يسمع أن إبنه صار مغنياً رغم أنه يزاول بيع الخضار في سوق الخرطوم، و لم يكن الغناء في تلكم الفترة وسيلة للرزق.. وقد ابتدع ودالفكى الرميات التى تسبق غناء الحقيبة وذلك دون اللجوء إلى أسلوب (الطمبارة)، واستطاع ودالفكي من خلال الحفلات التى أقامها بأم درمان أن يؤثر على شعراء الأغنية فتغيرت الاتجاهات الشعرية لإبراهيم العبادى ويوسف حسب الله الذى كان يسمى بسلطان العاشقين وأبوعثمان جقود ومحمد ود الرضي ومحمد على بدري وعمر محمد علي، وغيرهم ممن صاروا أساطين فن الحقيبة وقد كان إبن كبوشية ودالفكى مدرستهم الأولى التى جددت مفاهيمهم لشعر الأغنية.
لقد وجد الفنان محمد أحمد سرور الشهرة لأنه صار يغنى بأسلوب ودالفكي واشتهر العبادي شاعراً في أم درمان لأن ودالفكي غنى له.
رغم أن كثيراً من الباحثين يؤرخون لميلاد أغنية الحقيبة في العام 1920م في حفل زواج التاجر المعروف في تلكم الفترة في أم درمان (بشير الشيخ) عندما غنى سرور بدون (طنابرة) ، لكن كما هو واضح من هذا السرد فإن ودالفكي هو الذى أعطى هذا النوع الجديد من الغناء لفنانى أم درمان ، ولايمكن أن نذكره دون أن نذكر صديقه الشاعر حسن سالم وهو من أشعر شعراء كبوشية مع أنه كان أمياً لايقرأ ولايكتب!! وكان يعمل في صناعة سروج الجمال، وكان ودالفكى في بداياته الفنية في أم درمان يردد أشعاره.. وجاء بعدهما ومن كبوشية أيضاً الفنان عبدالله الماحي حيث ذكر أنه قدم الى أم درمان عام 1918م ولم يجد فيها من الفنانين غير(ودالفكى) الذى يعتبر أستاذاً له وبالتالي يعتبر ودالفكي أستاذ كل من جاء بعد ذلك من الفنانين مثل سرور وكرومة والأمين برهان ومن جاء بعدهم.
تشاء الأقدار أن يعتزل (ودالفكى) الغناء وهو في قمة شهرته عام 1920م بعد أن وضع تاريخ البداية لأغنية الحقيبة في السودان التي استمرت حتى العام 1940 حيث بدأت بعد ذلك مرحلة الغناء الوتري برواده المعروفين منذ عبدالحميد يوسف والكاشف وحسن عطية وأحمد المصطفى وحتى اليوم.
هشام عباس / أستاذ جامعي