حـدود المنطق
إسماعيل جبريل تيسو:
وتصرُّ مدينة كادوقلي حاضرة ولاية جنوب كردفان، على التمسك بمبدئها الثابت من الرغبة في تحقيق السلام المستدام، والصمود في وجـه الحرب، ورفض كل أشكال الفتن، بل مقابلة أزيز الرصاص، ودوي القنـابل وانفجـار الدانات، بالرقص على إيقـاع الكِّرانق، والمردوم، والتَّغنِّي بأهازيج الكمبلا والدَّرَمَلِّي، والعزف على نُقّارة الفرح، واحتضان شبّال حكّامةٍ، تتطاير ضفائرها حماماتٍ للسلام والمحبة والوئام.
هكذا بَدَا مشهد المدينة أمسية الخميس الماضي، وهي تحتشد داخل استاد كادقلي احتفالاً بتخريج 530 من مجندي الفرقة الرابعة عشرة مشاه، بحضور السيد والي ولاية جنوب كردفان محمد إبراهيم عبد الكريم وأعضاء حكومته ولجنة أمن ولايته، وفي مقدمتهم نائب الحاكم الجديد الأستاذ جابر الباشا دلدوم الذي وصل المدينة قبيل ساعات من انطلاق الفعالية، لاستلام مهام منصبه الجديد ممثلاً للحركة الشعبية شمال بقيادة الفريق مالك عقار، لقد كان الجمالُ يغطي كل مسامات أرضية الملعب، وشاركت السماءُ الأرضَ الاحتفاء بمهرجان المحبة، ففردت غمائمها أجنحةً ضارت وجه الشمس لحظاتٍ، استنشق خلالها جمهور المتفرجين عبق الظلال، وازدادوا استمتاعاً بقيمة الجمال.
ولكن جمال اللوحة سرعان ما تحول إلى حالة من الهلع والخوف والفزع، عند سماع دوي قنابل ودانات توزعت في مناطق متفرقة من المدينة، فانعكست على جنبات الاستاد، لتسود حالة من الهرج والفوضى، ولما كان الثبات والصمود سمةً تلازم مدينة كادقلي، فقد عاد الجميع إلى ممارسة الرقص على إيقاع الفرح، الذي ارتفع صوته ليغطي صوت انفجار الدانات والقنابل، وماهي لحظات حتى صمت صوت الحرب، وتراجعت رائحة البارود، أمام عنفوان العزيمة والإصرار الذي أفرزته رائحة الأجساد المتماسكة في النجيل الأخضر، وهي تضرب الأرض بحماسةٍ وكبرياء وشموخٍ وانتماء، وعِزّةٍ وإباء.
انتهى احتفال المدينة من داخل استاد كادقلي، ولكن سيل الأسئلة لما ينتهِ، بل ظلت علامات التعجب تتلبس الوجوه والقلوب والأفئدة، وكالعادة وُجهت أصابع الاتهام إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال ـ جناح عبد العزيز الحلو بالوقوف وراء هذا الهجوم المستفز، عطفاً على محاولات سابقة ظلت تقوم بها الحركة الشعبية باستهداف مدينة كادقلي، استهدافٌ تصاعدت وتيرته مع اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل من العام الماضي، فما الذي تريده الحركة الشعبية أو الجهة التي قامت بهذا العمل الإجرامي؟ ألا يكفي معاناة المدينة من شبح الجوع جراء الحصار المضروب عليها شهور عددا؟ ألا تكفي جريمة العُزلة المفروضة عليها؟ كفوا أيديكم عن كادقلي فلن تنالوا منها، فالمدينة التي صمدت في وجه الحرب لأكثر من ثلاثين عاماً، لقادرة على الصمود في وجه الحصار، ولقادرة على التحليق فوق جراحات الحرب ومرارات العنف، وستظل عصية على كل محاولات التجويع والتركيع، فموتوا بغيظكم، إنّا ها هنا صامدون.