مقالات

السودان..غياب القيادة الرشيدة

النذير إبراهيم العاقب:

تظل القضية السودانية هي الأكثر تعقيداً من بين كل دول القارة الإفريقية طوال الخمسون عاماً الماضية، ففي حين كان الإقتصاد السوداني هو الأعلى قيمة حتى نهايات سبعينيات القرن الماضي سواءً إفريقياً أو عربياً وعلى المستوى العالمي، إلَّا أنه تراجع وتدهور بنِسَبٍ مرعبة أفضت به إلى أدنى الدرجات، وبالتالي صار السودان في قاع قائمة الدول الأقل نمواً.
وبالعودة إلى الأسباب التي أفضت إلى هذا الحال المذري وبالتمحيص الدقيق حيالها، نجد أن السودان لا يفتقد شيئاً من أساسيات النماء والتطور الإقتصادي في الوقت الحاضر من خلال إمتلاكه لثروات إمكانيات عالية تمكنه من تحقيق أعلى قدر من النماء والتطور المطلوب، أكثر من إفتقاده إلى القيادة الرشيدة، مع وفرتها، بَيدَ أنها لا تجد الفرصة السانحة للمشاركة الفاعلة في تغيير الواقع السياسي والإقتصادي المرير الذي يمر به السودان حالياً، ولقد مضى حين من الدهر على السودانيين وهم يتلفتون بحثاً عن قيادات مؤسسية ذات وعي وإبصار ومصداقية تطرح لهم برامجاً عملية وواقعية وآفاقاً وطرقاً واضحة وسلمية للخروج من دوائر الحرب والتنازع والتخلف والفقر والتسلط إلى رحاب السلام والأمن الإجتماعي والتقدم والرخاء والنماء والحرية.
ولقد مرَ علينا في السودان بالفعل عدد كبير من القيادات الرشيدة رجال ونساء ذوي رؤىً ثاقبة وذوي عمود فقري أخلاقي متين، لم تبدلهم الأيام ولم يبيعوا أو يُبتَاعوا في سوق السياسة العطن. ولكن أغلبهم تخطفته يد الموت قبل الأوان او تآمر عليه الآخرون من تجار السياسة والدين، وكانوا يتميزون بفكر سياسي ثاقب وشجاعة ومصداقية أخلاقية لا مثيل لها، ولكن يد القمع كانت غليظة عليهما، فتم إقصاؤهم دون ذنب جنوه سوى حبهم للوطن ومَبغَاة تقدمه ونهضته وحريته.
والملاحظ طوال الفترات السابقة في تاريخ السياسة السودانية توزُُع القيادات السياسية على مختلف المشاريع الفاشلة والمضرة بالشعب السوداني، فمن جهة كانت هناك القيادات الطائفية التي مَزَّقَت وحدة شعوب السودان بالخلاف الطائفي والديني والعمالة للخارج، وكان أفقها السياسي ولا زال ضيقاً لأقصى درجات الضيق، وتبحث فقط في نشاطها عن مصالحها الخاصة والأُسرية، وتبيع حيوات وآمال وتضحيات الناس بأبخس الأثمان. ومن الجهة الأُخرى برزت زعامات كان يمكن أن تكون دوافعها نبيلة، ولكنها تعاطت العقائدية وضيق الآيدلوجيات الشمولية من شيوعية وإسلاموية وبعثية وناصرية إلخ.. فأدخلت البلاد في جحر ضب، حيث نظَُمت هذه الزعامات العديد من الإنقلابات العسكرية ونشرت الفيروسات الفكرية ومارست الجرائم السياسية البشعة، وأفسدت الحياة السياسية وأدخلت السودان في تجارب مريرة وقاسية. وليس آخرها تجربة نظام الإنقاذ التي إستمرت لثلاثين عاماً، لم يجنِ منها السودان سوى الفساد الإداري والقيادي والتمرد الحروب والتي بدورها قادت إلى فصل جنوب السودان، وأذاقت الشعوب السوداني الأمرَّين،
كما ظهرت قيادات كان يمكن لها أن تقود التغيير بما تميَّزت به من تأهيل علمي ومن ظروف مؤاتية، ولكنها إختارات الوسائل الخطأ و الطريق الخاطيء في النضال.
من بين هؤلاء الراحل جون قرنق دي مبيور، والذي رغم أنه قدم رؤية صائبة في عمومها لمعالجة المشكل السوداني، إلا أن حمله للسلاح وانتهاجه طريق البندقية قد كلف شعوب السودان وفي اولها شعوب جنوب السودان ثمناً باهظاً تمثَّل في ملايين القتلى والجرحى والمعوقين والمفقودين، ولقد رحل جون قرنق سريعاً وهو في أوَج العطاء، ولكن متابعة الحال في تنظيمه وفي الدولة التي نشأت على تراثه تُوضِّح أن الأفكار السليمة العامة لن يُكتب لها النجاح إذا لم تكن في إطار مؤسسة ديمقراطية وجماهيرية ناجحة تحميها من الإنحراف، وتَبعُد بها عن أن تتحول إلى النقيض.
في هذا الوقت كان العالم يتقدم بينما نحن نرجع للخلف، وإن دولاَ ماثَلَت السودان في الحجم والظروف إبَّان إستقلاله قد خرجت لرحاب التقدم والنماء والرخاء الواسعة اليوم، وذلك بفضل حكمة قادتها، وبُعد نظرهم ورفقهم على شعوبهم. ولعل مثال كوريا الجنوبية والتي كانت في العام 1956م في نفس الحال الإقتصادي والإجتماعي مع السودان وقتها فأين هي اليوم وأين نحن اليوم؟!.. كما كانت أغلب دول أمريكا الجنوبية تُماثلنا الحال عند الإستقلال حينها، وأغلبها اليوم في مرحلة متقدمة من التَطوُّر، بينما يظل السودان في آخر قائمة الدول الفاشلة، بل إن دولاً أصغر من السودان لا تملك شيئاً من الموارد الإقتصادية المعروفة مثل سنغافورة وكوستاريكا قد بدأت مسيرتها بعدنا بموارد أقل بكثير، واليوم هي تقود العالم وتُمثِّل نموذجاً يُحتذَى به في التَطوُّر الإقتصادي والأمن الإجتماعي والإستقرار السياسي، فأين نحن منهم وأين هم منا؟!.. ونحن نخرج من حرب لندخل في حرب جديدة.
ومرد كل ذلك بلاشك لأن جُل القادة الذين تسلَّطوا على السودان سابقاً كانوا يفتقدون الرؤى التنموية والإقتصادية والمنهج العلمي السليم الأصالة الفكرية السويَّة، كما قال الشهيد محمود محمد طه من قبل.
ولقد قنع أولئك الذين كانوا يُسمُّون أنفسهم بالقادة السياسيين بالفتات المعرفي وتراخوا تحت وطأة الكسل الذهني والتخلف الإجتماعي والسياسي، حتى صاروا نموذجاً سلبياً ومكوناَ إضافياً لمشاكل المجتمع السوداني المغلوب على أمره، ولا قادة حقيقيون وفاعلون له. ولعله وبإنعدام المنهج الفكري وبالبُعد عن قضايا الشعب عامَّة، وبإستسهال الصعوبات وبالوقوع تحت أسر الآيدلوجيات الفقيرة وبإنعدام الثورة الفكرية السلمية والسليمة، وبالذهول عن واقع العصر والعلم والعالم المتحضِّر أَغرَق هؤلاء السودان في مستنقعات التخلف الآسنة ولا يزالون.
ولعل نموذج حكم الأحزاب في ثمانينيات القرن الماضي ومن بعدها حكم الإنقاذ يُمثِّل تلخيصاً كثيفاً لكل سلبيات السودان القديم.
والغرابة تتمثل في أن حاضر السودان الحالي لا يختلف البتَّة عن ماضيه إلا في شدة إغتراب السلطة عن المواطن، وفي زيادة وتائر العنف المجتمعي وفي إشتداد بؤس الشعب السوداني وموته تشريده اليومي بسبب الحروب والمرض والجوع، وبالتالي صار حال الشعب السوداني يُغنِي عن السؤال والمقال، وكلما تأملنا فيما يجري وأرجعنا البصر كرَّتين، إتضح لنا أن السبب الرئيس لكل مشاكل السودان هو إنعدام وغياب القيادة الرشيدة التي بإمكانها قيادة البلاد من ضيق التخلف والوهم إلى بر الأمان وإلى رحاب الرخاء والعلم والتطوُّر.
ونقولها الآن وبأعلى صوت إن المعركة السودانية الأساسية ليست هي معركة الأحزاب أو الآيدلوجيات وإنما هي معركة الخُطط والبرامج والفهم الرشيد لمتطلبات الحاضر والمستقبل الرامية إلى الوصول لأقصى وأعلى مراتب التطور والنماء السياسي والإقتصادي والإجتماعي.
ولعل الشعب السوداني ككل لم يعُد يُعوُِل على الأسماء السياسية اللامعة ولا على الحسب والنسب الطائفي ولا الولاء الديني، وإنما تعويله الأساسي يرتكز على الكفاءة العلمية والتجربة الحياتية والقدرة على التعلُّم بما يقود إلى تجاوز إخافاقات الماضي والشروع الفوري في تطبيق الخطط والبرامج الفاعلة لتغيير الواقع المذري والمرير الحالي إلى واقع أكثر أمناً ورخاءً وتطوُّراً، وذلك لن يتحقق واقعاً ما لم نركن جميع أوهامنا السياسية والإجتماعية القديمة ونتمسك بأحلامنا المستقبلية الواقعية. لاسيَّما ونحن نرى العالم حولنا يتحوَّل ويتغيَّر ويتطوًّر على مدار الساعة، والشباب يتقدمون منابر القيادة الفكرية والعلمية ونحن ما زلنا في أدنى درجات التخلُّف.
ونخلَص إلى أن قضية توفُّر القيادة الرشيدة وووجود الحكومة الرشيدة أصبحت قضية حياة أو موت، وأَمسَت ضرورة مُلِحَّة لتغيير الواقع السياسي السوداني المرير، والتفكير السليم في وضع الخطط والبرامج المفضية لمستقبل سياسي وإقتصادي وإجتماعي يضمن إستمرارية الدولة السودانية ويصعد بها إلى أعلى مراتب الدول المتطورة، وفحواها أكثر وضوحاً ويتمثل بجلاء في أن يكون السودان أو لا يكون.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق