أخبار وتقارير

بعد مرور ٤١ عاماً على النشأة والتكوين.. الحركة الشعبية.. أسئلة حاضرة وإجابات غائبة..

لماذا فشلت في تحقيق رؤية السودان الجديد..

ماهو سرُّ التشظي والانقسامات التي ضربت بنيتها شمالاً وجنوباً؟

لماذا تبخرت الأحلام؟ وماهي أسباب تناقض مواقفها السياسية والعسكرية؟

اتفاق نيفاشا، وفاة قرنق، انفصال الجنوب، تجدد التمرد، محطات مثيرة اكتنفت المسيرة..

تقرير- إسماعيل جبريل تيسو:

تحتفل الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان هذه الأيام بمرور الذكرى ال(٤١) لتأسيس الحركة، إحدى أهم وأبرز حركات الكفاح الثوري التحرري المسلح في السودان، وما بين السادس عشر من مايو ١٩٨٣م، والسادس عشر من مايو ٢٠٢٤م، جرت الكثير من المياه تحت الجسر، وضربت سفينة الحركة الشعبية الكثير من الأمواج والتيارات المتلاطمة، وعصفت بها أعاصير ورياح جرت بما لا يشتهي ربانها وقادتها وحتى منسوبيها، وهي أمور أقعدت بمسيرة الحركة الشعبية، وقيّدتها، ففشلت في بلورة المنفستو الذي يطرح رؤية ومشروع السودان الجديد.

بور كانت الانطلاقة:
مدينة بور أو بلدة مادينك والتي ترقد في أحضان الضفة الشرقية للنيل الأبيض، تعد أكبر مدن جنوب السودان بعد العاصمة جوبا، وبور هي مسقِط رأس زعيم ومؤسس الحركة الشعبية لتحرير السودان، دكتور جون قرنق دمبيور، وفي هذه المدينة وتحديداً في السادس عشر من مايو من العام ١٩٨٣م، اشتعل فتيل تمرد عسكري قاده العقيد دكتور جون قرنق ضد حكومة الخرطوم، وقد بدأت فكرة التمرد بسيطة بالخروج على سلطة المركز، وهو تمرد لم تكن له أهداف سياسية أو أيدولوجية وإنما كان عبارة عن مغاضبة ضد السلطة المركزية، المتهمة بممارسة تهميش قسري وقهري على أقاليم البلاد النائية.

منفستو سياسي:
تطور تمرد العقيد جون قرنق ديمبيور على السلطة المركزية في الخرطوم، وبدأ يشبُّ عن الطوق ويقوى عوده ويتسع حيزه، بالخروج من دائرة بور، ومحاولة التوغل في مساحات جنوب السودان الشاسعة وادغاله الواسعة، بالاستيلاء على عدة مناطق ومدن مهمة، وليأتي شهر يوليو من العام ١٩٨٣م، ويحدث التحول الفارق في مسار هذا التمرد العسكري الذي تطور إلى نضال مسلح مبني على إفكار وأيدولوجيات من خلال الإعلان عن منفستو الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، حيث ارتكز هذا المنفستو المرتكز على قواعد حملت مشروع رؤية (السودان الجديد)، بالدعوة إلى إقامة سودان جديد موحد، علماني، اشتراكي، ديمقراطي يضمن حياد الدولة تجاه الأديان والأعراق والثقافات والجهات.

قصة الحرب والسلام:
لقد أسال منفستو الحركة الشعبية لعاب بعض أقاليم السودان التي كانت تشكو من ذات مفاهيم الإقصاء والتهميش من قبل النخب السلطوية المركزية في الخرطوم، ففتحت مناطق جبال النوبة والأنقسنا والفونج بالنيل الأزرق، أذرعها واسعة لاحتضان مشروع الحركة الشعبية الذي ذاع صيته وضربت شهرته الآفاق من خلال آلتها الإعلامية الذكية المتمثلة في إذاعة صوت الجيش الشعبي، فقد ساهمت هذه الإذاعة في نشر ثقافة الحركة الشعبية مشروعها النضالي، الأمر الذي أوجد آذاناً مصغية في مناطق جبال النوبة والنيل الأزرق التي سارعت بالانضمام والالتحاق بالحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، ليصبح الكفاح المسلح واقعاً حاولت الحكومة المركزية وأده في مهده بلغة السلاح، حيث شهد جنوب السودان أطول حرب في القارة الأفريقية، انتهت بالتوقيع على اتفاق سلام نيفاشا في التاسع من يناير من العام ٢٠٠٥م، بعد مفاوضات مارثونية قادها في ذلك الحين، النائب الأول لرئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه، وزعيم الحركة الشعبية دكتور جون قرنق، الذي لم يعش طويلاً عقب هذا الاتفاق إذ لقى حتفه في حادث طائرة أليم وفاجع في الثلاثين من يوليو ٢٠٠٥م، أي بعد ستة أشهر فقط من توقيعه على اتفاق سلام نيفاشا.

انفصال جنوب السودان:
لقد كان التوقيع على اتفاق سلام نيفاشا بمثابة زخم كبير، أدخل الفرحة في نفوس السودانيين، وحرّك ساكن المشهد السياسي المحلي والإقليمي والدولي، وهزّ جنبات الكون، إذ اعتبر الكثيرون اتفاق سلام نيفاشا استقلالاً جديداً للسودان في عصره الحديث، بيد أن السنوات التي تلت هذا الاتفاق قالت بعكس ذلك، فلم تستمر فرحة السودانيين طويلاً، وسرعان ما تبخرت أحلامهم أمام بتر جزء مهم من جسد السودان، ذهب بانفصال الجنوب، لتسقط معه ورقة التوت وتنكشف عورة الحركة الشعبية لتحرير السودان وهي تفقد أحد دعائم المنفستو الذي يدعو إلى سودان موحد يسع ويستوعب الجميع على أساس المواطنة.

تناقض رؤية:
لقد كان انفصال جنوب السودان مؤشراً لتناقض رؤية الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، قبل أن يكون بداية لزرع ألغام من الفرقة والشتات والخلافات التي دبت في جسد التنظيم العسكري السياسي الذي قاد نضالاً مسلحاً لأكثر من ثمانية وعشرين عاماً حسوماً ضد سلطة الحكومة المركزية في الخرطوم، فقد قضى انفصال جنوب السودان، بانفصال الحركة الشعبية نفسها إلى الحركة الشعبية شمال بقيادة عبد العزيز الحلو ونائبه مالك عقار، ثم توالت الأحداث عاصفة، لتنشطر الحركة الشعبية شمال إلى نصفين آخرين، استحوذ منه عبد العزيز الحلو على قطاع جبال النوبة، بينما احتفظ مالك عقار بقطاع النيل الأزرق، وما بين النصفين توزعت قيادات المنطقتين بين رحاب الجنرالين، ثم انسلخ دانيال كودي وتابيتا بطرس، وغادر ياسر عرمان، ومبارك أردول، وعسكوري، وقبلهم خرج إسماعيل خميس جلاب، وخرج آخرون كثر غادروا الحركة الشعبية من الأبواب الضيقة، فمنهم من احتفظ باسم الحركة الشعبية في تنظيمه الجديد، ومنهم من أبى، وحتى الحركة الشعبية لتحرير السودان الأم، لم تسلم من وباء التشظي والانقسام، على غرار ما حدث بين الرئيس سلفاكير ميارديت، ونائبه ريك مشار، وهو انقسام دفعت دولة جنوب السودان ثمنه غالياً باشتعال فتيل حرب مازالت تداعياتها تنعكس سلباً على واقع أحدث دولة في العالم.

مشاكل وصعوبات:
وعلى صعيد السودان الأب واجهت الحركة الشعبية الكثير من المشاكل والصعوبات، بداية بتجدد تمردها عقب انفصال جنوب السودان في العام ٢٠١١م، منهية بذلك حالة السلام والاستقرار التي تمخضت عن التوقيع على اتفاق نيفاشا عام ٢٠٠٥م، لتظل المنطقتان في جبال النوبة والنيل الأزرق ترزحان تحت وطأة الحرب حتى تم التوقيع على اتفاق سلام جوبا في الثالث من أكتوبر ٢٠٢٠م، عقب اندلاع ثورة التغيير التي أطاحت بحكم الرئيس عمر البشير، وانفتاح ثورة ديسمبر على رفقاء الكفاح المسلح وبسط يد السلام من خلال مفاوضات ناجحة شهدتها مدينة جوبا برعاية الرئيس سلفاكير ميارديت انتهت بالتوقيع على اتفاق السلام الذي مهرت عليه كبريات حركات الكفاح المسلح، عدا حركة جيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد أحمد النور، فكان اتفاق سلام جوبا برداً وسلاماً تنزَّل على نار معاناة الحرب في إقليم النيل الأزرق الذي ينعم إنسانه حالياً باستقرار نسبي نتيجة انحياز الحركة الشعبية بقيادة مالك عقار إلى السلام، وفي المقابل تصرُّ الحركة الشعبية في جنوب كردفان إقليم جبال النوبة بقيادة عبد العزيز الحلو على حمل السلاح.

مفاجآت متتالية:
كان موقف الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال بقيادة عبد العزيز الحلو عند اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل ٢٠٢٣م، مفاجئاً حتى لمنسوبيها والمتضامين معها من أبناء ولاية جنوب كردفان وإقليم جبال النوبة! ذلك أن الحركة الشعبية استغلت انشغال الجيش بحربه ضد مليشيا الدعم السريع، فقامت بمهاجمة المناطق التي كانت تقع تحت سيطرة القوات المسلحة، ثم فاجأت الحركة الشعبية الناس جميعاً وهي تلتزم حِيزيَة واحدة وتنزل بجانب القوات المسلحة في خندق واحد لتصدَّ هجوماً شنته ميليشيا الدعم السريع على مدينة الدلنج، فاستطاع تضامن بندقية الجيش والحركة الشعبية أن يكبّد الميليشيا المتمردة خسائر فادحة في الأرواح والأنفس والمعدات، ثم كانت المفاجأة الكبرى بأن عاودت الحركة الشعبية هجومها على مناطق سيطرة الجيش مرة أخرى، قبل أن تعلن في أبريل الماضي انحيازها لصالح المواطنين في جنوب كردفان إقليم جبال النوبة، بإعلانها الحرب على ميليشيا الدعم السريع.

على كلٍّ،، تبقى الذكرى (٤١) لتأسيس الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، بمثابة وقفة ينبغي أن تستثمرها الحركة الشعبية بمختلف تياراتها، للتأمل والمراجعة، وإعمال نقد ذاتي للتجربة ودراستها على مدار واحد وأربعين عاماً، ومحاولة استقاء الدروس والعظات والعبر، والارتكاز على حدود المنطق والحكمة والعقل، بحثاً عن إجابات مقنعة للكثير من الأسئلة الموجعة التي تعتمل في نفوس مواطني جنوب كردفان ومنسوبي هذا التيار السياسي العسكري الذي كان مولده حدثاً بعث الأمل في النفوس بإمكانية مناهضة التهميش الإثني والقبلي والجهوي في مسارح الحقوق الدستورية، والارتهان إلى مبدأ المواطنة في نيل الحقوق المدنية في التعلم والعمل والسكن والعيش الكريم.

 

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق