مقالات

بركة ساكن يرد على الدقير

رسالة عن قصص الشعوب وقصة شعبنا في محنته إلى الأستاذ المحترم عمر الدقير

أولًا أشكرك على تلك الرسالة الطيبة، وأظنها تؤسس لمدرسة في المجادلة بالحسنى اصبحنا نفتقد حكمتها في هذا الزمن الذي شاعت فيه روح العنف في الرد والحوار ، واصبح فيه البعض ادوات للإساءة وابواقا لشتم كل من يخالفهم الرأي، والتنكيل به اعلاميا انتصار لخطهم وتوجههم، و للأسف فهم يتحركون نيابة عن آخرين لم يستطيعوا -للأسف- أن يدركوا أنهم لا يمتلكون الحقيقة المطلقة، وأن هذا الاستحقاق الذاتي الذي يتوهمونه في انفسهم للحديث باسم شعب كامل وأنهم كمشتغلين في العمل العام، فمن حق الناس انتقادهم وتقويمهم بالكلمة والرأي والموقف ومن واجبهم ان ينصتوا ويستمعوا ويقوموا انفسهم. وأظن، يا استاذنا الفاضل، ان كثير من كوادر الحرية والتغيير وعضوية حزبكم يحتاجون إلى دخول هذه المدرسة، وأنت فيها أب ومعلم واستاذ جليل وقائد موقر، ولعلك تذكر حكمة الشهيد الراحل عبدالخالق محجوب، السكرتير العام الأسبق للحزب الشيوعي، في سياق رده على حملة تبشيع إعلامي مشابهة انتاشت سهامها الشيوعيين السودانيين في الخمسينات، “ان الرجل الشريف يصارع الفكرة السياسية بالفكرة السياسية ويعارض فكرة معينة بالحجة والمنطق. إن محاولة تزييف أفكار أعدائكم – أو من تتوهمون إنهم أعداؤكم – بهذه الطريقة الصغيرة لا تليق، فوق أنها عيب فاضح. أما أساليب الدس فهي من شيم الصغار جداً حتى ولو كبرت أجسامهم وتوهموا في أنفسهم علو المقام.”

وأيضا لا اظن خافيا عليك ما يُنسب للمحرر الفيتنامي هوشي منه بان السياسي البارع هو من يجد نقاط اتصال بينه وبين اعدائه، بل بينه وبين الذين يعتبرونه عدوا لهم أيضا.
ولعل مدخل هذا النقاش الراقي الذي ابتدرته يكون درسا لكل من يحتاجه للنهوض ببلادنا من وهدة زمان الانحطاط الذي غرقنا فيها.

 

ثانيا:
دعني أقص عليك بعض قصص الشعوب:
يُقال عندما تمكن نابليون بونابرت من هزيمة احد شعوب المتوسط، أتى اليه فرد من ذلك الشعب المهزوم، وكان قد عاونه في احتلال أرض أجداه، وله فضل كبير في أن يلحق بهم الهزيمة، ومد يده لمصافحة بونابرت المنتصر، إلا أن الأخير رفض أن يصافحه، ورمى إليه بحفنة من النقود على الأرض: (من خان شعبه ليس جديرًا بمصافحتي).

وفي فرنسا ايضا، لا يخفى عليك مصير حكومة فيشي التي تواطأت مع النازيين في احتلال بلادها، خلال الحرب العالمية الثانية، والتي كان على رأسها الماريشال فيليب بيتان، وهو البطل الفرنسي الذي أكرمته الجمهورية الفرنسية أكرم بلقب الماريشال في 1918، ولكنه انحاز إلى النازيين والفاشست ضد شعبه ووطنه فكان مصيره أن يمضي مكروها في التاريخ إلى الأبد وأن يُحكم عليه بالإعدام في نهاية الحرب العالمية الثانية، مشيعا بلعنات الأحرار حول العالم.

وقصة أخرى: كنت في بلجيكا قبل أسبوعين، وفي نقاش عن الثورة والثوار والغزاة، تحدثنا عن مقاومة الشعب البلجيكي للغزو الألماني النازي الشنيع، فأرتني السيدة التي كنت أحاورها قوائم طويلة تسميها قوائم العار للرجال والنساء من البلجيك الذين كانوا يساندون الألمان، ويمكنونهم من المعلومات التي تفيدهم في حربهم ضد بلحيكا، التي هي موطنهم.
واليوم، يحس أحفاد هؤلاء المتعاونين، بالعار.

القصة الأخيرة من قصص الشعوب:
عن الجزائر، حيث قاوم الجزائريون الاستعمار الفرنسي بشراسة، واستشهد ما يقارب المليون من النساء والرجال والأطفال، ولكن كان بعض الجزائريين يساندون المستعمر الفرنسي، عندما خرجت فرنسا بعد استقلال الجزائر، تركت أغلبهم لمصير مجهول، وأخذت بعضهم لفرنسا، وضعتهم في مساكن بائسة، ولم يحترمهم الفرنسيون اليوم، (فمن يخون أهله سيخون الغريب).

ما سبق، به حكم ودروس إنسانية ونضالية بل وأخلاقية في المقام الأول، هي مما أنارت للإنسانية ظلمات جب اختيار المواقف الوطنية، خصوصا عندما تتعرض شعوبها للقهر والقمع والإذلال على يد الطغاة.
ولكن فلنتركها جانبًا ليستأنس بها إبن خلدون…

اسمح لي استاذنا الفاضل أن أوجه لك بعض الأسئلة:
السؤال الأول: هل الجنجويد، الذين يُطلق عليهم اسم الدعم السريع، يهدفون إلى إعادة الديموقراطية والحكم المدني للسودان، او إنهاء اختلالات دولة ٥٦، كما هو في خطابهم تضليلهم الاعلامي؟
إذا كانت الاجابة بلا: نكون قد اتفقنا على نقطة مهمة.

أما إذا استشكل الرد على الوضوح وغرق في جب التبرير واللكننة، فيصبح السؤال إذن، ما علاقة تلك الأهداف بحرق القرى وقتل المدنيين ونهب السيارات والبيوت واغتصاب النساء وسرقة المخزون الغذائي، وتدمير البنية التحتية التي هي اصلا آيلة للسقوط ونهب البيوت، ودفن المواطنين أحياء في الجنينة، وتدمير المكتبات العامة والجامعات، وقتل المواطنين في قراهم كما حدث في ود النورة والهدى والتكينة وعسير وغيرها من مئات القرى في كل أنحاء السودان؟ بالاضافة لحصار الفاشر ونهب الجنينة وترويع ود مدني وتدمير الخرطوم. كيف يمكن لشوارع الجنينة التي تغطت شوارعها وازقتها بالدود من اثر تراكم الجثث لشهور طويلة أن تكون في مسار استعادة الديموقراطية والحكم المدني لربوع السودان؟!
بل كيف يمكن أن يكون ذلك في سياق محاربة الكيزان والفلول؟ وهل من كيزان وفلول بأكثر من الذين هم في صفوف الجنجويد، من أبواقهم الإعلامية وحتى قياداتهم الموزعين بين تركيا وأبوظبي ؟
بل أكثر من ذلك، هل لا يوجد كيزان وفلول في صفوف الحرية والتغيير وتقدم؟ من وزراء سابقين في عهد البشير حتى حكومته الأخيرة، وتجار دم وحروب اغتنوا من فساد نظام البشير وحلفاء سياسيين شدوا من أزر البشير في مواجهة نضالات شعبنا ؟

هل بالفعل تقدم أو قحت تحارب الكيزان؟
هل يحارب الجنجويد الكيزان: وقد صنعوهم بأيديهم وأرضعوهم القبح والشراسة، فبز فيهم التلميذ معلمه؟

هذه الأسئلة تقود إلى السؤال الأعظم: هل الجنجويد وطنيون، هل يسعون لخير الشعوب السودانية، أم أنهم مثلهم مثل الغزاة الذين يسعون للنهب والتغنيم والتكسب، تحت شعارات تلمع مثل ذهب جبل عامر؟

لعلي اقصد بوضوح ما هو رأيكم كقائد لتنظيم سياسي في الجنجويد وما يقومون به؟
وإذا كان الرد نعم، فاخبرني بالله عليك بماذا تفسر بيان جبهتكم المدنية التي كانت تدعي انها تتداعى لإيقاف الحرب، وهي تلفق ادعاءات الاغتصاب وتنسبها للجيش لتصرف النظر عما يرتكبه الجنجويد، ولعلك تذكر الغضبة الشعبية والانتقادات التي وجهت لجبهتكم حتى اضطرتكم لسحب البيان والاعتذار عنه.
أو بماذا تفسر تقارير أمان الاوضاع في رفاعة التي تداولتها ونشرتها عضويتكم بينما كانت رفاعة تتناوشها مخالب وأنياب الجنجويد؟
أو بماذا تفسر انخراط عضوية حزبكم انت شخصيا في ترديد الدعايات الحربية للجنجويد والتسابق لتبرير جرائمهم وصرف النظر عن انتهاكاتهم.
بالله عليك يا استاذنا الفاضل… بماذا تبرر موقفكم العجيب في محاولة التستر على الدول الخارجية التي تواصل إشعال نيران الحرب في السودان وإمداد الجنجويد بالسلاح والعتاد تحت ادعاء انهم يحاربون الكيزان والإسلاميين، وهي نفس الدولة التي قامت بطردك انت شخصيا وإبعادك عن أراضيها ارضاء لعيون ومطالب الأخوان المسلمين !

يا استاذنا الفاضل…
الموقف من الانتهاكات والجرائم ضد الإنسانية هو موقف مبدئي وأخلاقي … لا يحتمل التلفيق والتلاعب السياسي ورفع شعارات الحياد الكذوبة.

والموقف من شعبنا هو ان ننحاز له، ونوجه بوصلة مواقفنا السياسية والاخلاقية حيثما اتجهت ارادة شعبنا واهلنا، واعتقد ان اتجاه فرارهم من جحيم مناطق سيطرة الجنجويديون إلى أي مكان آخر داخل وخارج السودان، يكفي لتحديد من الذي يجب أن نقف ضده بكل وضوح.
فيما يخص ود النورة:
هل تدينون الطرفين؟
وهل اذا كانت بود النورة أسلحة، وشباب يدافعون عن قريتهم، عرضهم وأموالهم البسيطة وبيوتهم، هل من حق الجنحويد مهاجمتهم؟
(هل اذا، هاجمتني، لتقتل وتسرق وتنهب وتغتصب، هل من حقك أن تحدد لي الطريقة والكيفية التي علي القيام بها من أجل مقاومتك أو الدفاع عن نفسي، هل تحدد لي كيف أدفع عن أرضى وعرضي وحياتي، وتلك حقوق مشروعة؟)
فيما يخص، موقفي الأخلاقي ضد محاكمتكم، لا أظن أن ذلك يحتاج لتبرير، على كلٍ، كنت دائما افترض حسن النيات وأن تقدم أو قحت ربما تنتبه لتلك الورطة التي تزلق إلى هوة ظلماتها، وهي تتلخص في جملة قصيرة ذكرها بيان حزب الأمة في اصلاح المنظومة ، التي هو من مؤسسيها: (الميل لأحد الأطراف في الحرب) ومعلوم أي طرف يقصده حزب الأمة، ذلك الذي تميلون عليه.

قد اتفق معك في مسألة المتحدث باسم المزارعين، وربما ذلك الحدث سلوكًا فرديا من بعضهم، ولكن السؤال: أليست تقدم هي كما تقولون تحالف عريض، والذين تم جمعهم، أليسوا ضمن هذا التحالف، إذن الذين اعترضوا إدانة الجنجويد، أليسوا منه؟ ألم يحدث ذلك إبان مؤتمركم التأسيسي الذي كان يضج ويعج بمن هم يدعمون خط الجنجويد، وكان صوتهم عاليًا جدًا ؟؟

استاذنا:
اليوم إذا استمعت إلى تعليق المتحدث الرسمي باسم تقدم في الحرب التي يديرها الجنجويد في الفاشر، ورأيه في مقاومة أبناء الفاشر للغزو، فإنك لا تجد فرقًا ملحوظا ما بين خطاب متحدث الدعم السريع، ومتحدث تقدم!؟
ما السبب؟!
وهذه بعض الأسئلة
التي تحتاج لإجابات صريحة.
في ختام هذه المداخلة ، على قحت أو تقدم أن تكون واضحة جدا وصريحة جدا في موقفها من الحرب، والجنجويد، بالصورة التي تخلو من الالتباس، بالنسبة للمواطن العادي مثلي الذي عليه بما ظهر منها. وما ظهر لنا في مصافحتكم واصطفافكم للسلام الحار على قائد الجنجويد حميدتي في ١ يناير ٢٠٢٤ بينما جنده يصبون العذاب ويفتحون أبواب الجحيم فوق روؤس الآمنين من أهل الجزيرة، يستحق تفسيره وتبريره ثم الاعتذار عن خطأ موقفكم فيه.

اتمنى أن نوفق جميعا من أجل خير بلدنا وشعبنا وأن تقف هذه الحرب وينعم الناس بالسلام، والطريق الوحيد الصعب لذلك هو الحوار: ليس الحوار الذي يجري فقط بين الذين هم متفقين في الرؤية والحل، ولكن الحوار الذي يشمل كل من تهمه مصلحة الوطن ويختلف في منظوره للحل.
نعم للسلام.

بركة ساكن

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق