مقالاتمنوعات وفنون
مصعب الصاوي يكتب في وداع البروفيسور الماحي إسماعيل العميد المؤسس للمعهد العالي للموسيقى والمسرح
طوى نعي الاستاذ الماحي إسماعيل البلاد حتى فزعت منه بآمالي إلى الكذب وراجعت وثوقية الخبر بعين دامعة وفؤاد مكلوم حتى قطعت به جهيزة قول كل مرتاب والموت حق ولكن فقد الرجال المثاقيل اصحاب الكسب والتجاريب والهمم العالية من شادوا لاوطانهم وللإنسانية صروحا من المفاخر ثقيل الوطء على القلوب المحبة التي عرفت فضلهم ورتعت في بحبوبة رياضهم ذات الشذى.
لقد شق علي نعي الاستاذ المؤسس للمعهد العالي للمعهد العالي للموسيقى والمسرح والفنون الشعبية العام 1969 وازداد بثي وحزني حين طالعات الوسائط فلم اجد لسيرته الباذخة نشرا وذكرا فآليت على نفسي إلا يكون رثاء بل رفعا لذكره في العالمين . لقد ناهز عمر الاستاذ التسعين وآخر لقاء لي كفاحا معه كان باستوديو خانجي صحبة الأستاذين ابوبكر الهادي والأستاذ كمال عبادي لتسجيل سيرته العامرة كساقية اجداده الصالحين بالأبيض فهو من ارومة قنديل كردفان ترعرع وسط أماديح السادة الإسماعيلية ودرس مراحله بها ثم انضم لأسرة التدريس بمعهد بخت الرضا التي خرج منها اول عميد سوداني لكلية الفنون الجميلة خلفا لقرينلو وهو الاستاذ بسطاوي بغدادي لتمنحنا بخت الرضا استاذاً آخر في الموسيقى لينهض بمهمة تأسيس المعهد العالي للموسيقى والمسرح والفنون الشعبية بعد أن حاز على دراسات متعمقة في آلة الكمان من بريطانيا.
وبين ذهابه مبعوثا وعودته كان الموسيقار الماحي عازفا رائدا لالة الكمان ضمن اوركسترا الاذاعة القديمة وقد امتد قوس كمانه لتلك الكوكبة الذهبية للمدرسة الوترية احمد المصطفى والكاشف وعبد الدافع عثمان والتاج مصطفى وحسن عطية . وعند افتتاح المسرح القوسي عزف الاستاذ مرتجلة للكمان قبل فتح الستار فجمع بين الاذاعة وافتتاح المسرح وتأسيس المعهد حقا إذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام.
لم تكن ملحمة تأسيس المعهد نزهة مفروشة بالرياحين بل جهادا حقا في مجالدة البروقراطية والتهكم الذي وجده من متخذي القرار بين مخذل ومثبط وساخر ظل الاستاذ يحمل صخرة حلمه كسيزيف يصعد به الألم وتنحدر به العقبات إلى أن تم افتتاح المعهد على يد طيب الذكر الزعيم الخالد إسماعيل الأزهري وماهي إلا شهور حتى جاء نظام مايو ولحسن الحظ لم يمانع النظام وقتها أن يكون هناك معهد للموسيقى والمسرح بل دعم هذا التوجه وعززه بعلاقات مايو المزدهرة وقتها مع كوريا وألمانيا ومصر.
الشاهد أن فترة التاسيس هذه كانت من أصعب سنوات المعهد وأقساها وكانت بحاجة لرجل في صلابة وجلد الماحي إسماعيل كما سخر الله بفضل الله للمعهد مجلس إدارة من صفوة المثقفين وأهل الاستنارة ذلّلوا له العديد من العقبات واستثمروا علاقاتهم داخل السودان وخارجه لدعم المعهد . بانتقال الاستاذ الماحي إسماعيل للعيش في ألمانيا انعقدت له مهمة الإشراف على قسم ( موسيقى العالم ) وهو اضخم ارشيف لموسيقى الشعوب واستطاع بجهوده ومعرفته الموسيقية ان يؤرشف اضخم محتوى لموسيقى الشعوب في اوربا ضمت مجموعات اسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وموسيقى الريف بجانب الموسيقى الدينية وموسيقات الطقوس للمجتمعات التقليدية وهو جهد امتد لعقود من الزمان وبالطبع استطاع البروفيسور من موقعه ذاك خدمة الموسيقى السودانية فسجل مثلا للموسيقار بشير عباس وللعميد احمد المصطفى وللكابلي ولعبد العزيز داؤود بل ساهم في نشر أسطواناتهم والترويج لها .
كانت مهام البروفيسور في اذاعة كولون تتمثل في تحديد المختارات الموسيقية وتصنيفها وإعداد فهارسها للمكتبة ثم الإشراف الفني والموسيقي على عملية التسجيل نفسها حتى تخرج بالصورة المتقنة المرجوة وقد كان عليه سحب الرحمة والرضوان مجودا ودقيقا في عمله .
هذا غيض من بحار سيرته العامرة الجهيرة فليتقبله الله القبول الحسن وليجعل ارثه وبذله صدقة جارية وعلما نافعا يوم لاينفع مال ولابنون إلا من أتى الله بقلب سليم وصلي اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى ال محمد في كل لمحة ونفس عدد ماوسعه علم الله.