مقالات

المناظرة الرئاسية والسودان.. الآخر في مفاهيمهم

علي عسكوري:

عبّر بعض المعلقين والكتاب عن إستيائهم لعدم تناول مرشحي الرئاسة الأمريكية لقضية الحرب في السودان خلال المناظرة التي جرت بينهما قبل عدة أيام. ذلك الإستياء والتبرم دفعني لكتابة هذا المقال.
بدا لي وكأن هولاء في تبرمهم من التجاهل الذي وقع على حرب السودان نسوا تاريخ الحضارة الغربية التي تقف أمريكا اليوم على سنامها كقائد وحيد لها منذ نهاية الحرب الكونية الثانية.

وأمريكا خلافا لكل الحضارات السابقة خرجت إلى الحياة من مجتمع ناضج لأن الأوروبيون هاجروا اليها بكامل خبراتهم ومعارفهم ومفاهيمهم الدنيوية في مختلف ضروب الحياة بما فيها العنف والحروب. ولذلك فتاريخ أمريكا بصورة أو بأخرى يعتبر إمتدادا لتاريخ أوروبا بكل ما يحمل ذلك التاريخ من أوزار ومآسي ونكبات وجرائم ضد شعوب الأرض، ولذلك من الطبيعي أن تسير أمريكا في ذات النهج القديم من عدوان على الشعوب واستغلالها، فالشئ من معدنه لا يستغرب، كما يقال.

أحاول في هذا المقال القصير أن أقلب قليلا في صفحات ماضي الحضارة الغربية لتوضيح المفاهيم التي تقوم عليها فيما يتعلق بنظرتها للمجتمعات الأخرى،  ولأن تلك المفاهيم قديمة وثابتة ومطبقة حتى اليوم، لذلك لا يهتم مرشحا الرئاسة الحاليين بمشكلات مجتمعات أخرى الا بالقدر الذي يتقاطع أو يتفق مع مصالحهم. ذلك هو ما يقتضيه نظام مؤسسة الدولة في الحضارة الغربية وهي دولة شعوبية ممعنة في العنصرية (راجع معاهدة وستفاليا 1648)، مع أخذ تلك الحقيقة في الحسبان، فالمرشحين لايملكان إلا أن يتحدثا بمهنية عالية ومحسوبة وفي إطار مرسوم مسبقا يعبّر مباشرة عن المصالح المتفق عليها بين الطبقات الحاكمة بما لا يمس المرتكزات الأساسية لمؤسسة الدولة في الغرب.

رغم ضخامة وتشعب هذا الموضوع حيث اتناول حقب تاريخية من قبل الميلاد سأحاول تقريب الفكرة للقارئ في اختصار لحقب التاريخ الطويلة آمل أن لا يكون مخلا، سأشير إشارات سريعة لمن أسسوا لمرتكزات النظرة الغربية للآخرين واترك للراغبين مهمة البحث أكثر حتي يعلم الناس المنطلقات الراسخة التي تحكم سياسيات الغرب عامة في تعامله مع الشعوب الأخري.
للحضارة الغربية جذور عنصرية بالغة القدم بدأت منذ أيام الحضارة الإغريقية أو اليونانية (أثينا) مرورا بالجمهورية (لاحقا الامبراطورية) الرومانية ثم البرتغالية والإسبانية و هابسبيرغ و الفرنسية والإنجليزية وغيرها وانتهاء حاليا بأمريكا. في كل تلك الأمبراطوريات استمرت الأسس التي قامت عليها الحضارة الغربية ثابتة لم تتغير استراتيجياتها وان تغيّر الاشخاص وانتقل مركز القرار جغرافيا.
قامت الحضارة الغربية علي مباديء عنصرية محضة شكّل الإسترقاق مكونها الأساسي كما نناقش.
كانت الحضارتيين اليونانية والرومانية يعتمدان علي الرق بصورة كبيرة وهي السمة الغالبة التي شكّلت تلك الحضارات (إن شئت). قامت الحضارتان علي مفهوم أساسي يقول ان اليونانيين و الرومان هم الأحرار، اما بقية الشعوب فهي دونهم ولهم حق استرقاقها متي ما تمكّنوا منها في الحروب حيث كان أسري الحروب يشكلون عماد الأرقاء آنئذ.
نعلم أن أسس الحضارة الغربية تعود الي أثينا وفلاسفتها مثل إفلاطون الذي كان ضد الديمقراطية ولا يؤمن بها، رغم ذلك كانت نظرته للإسترقاق الذي كان يمثل عماد الحياة والإنتاج أفضل من تلميذه أرسطو. فمع قبول افلاطون با سترقاق الآخرين كحق مكتسب لليونانيين رأى ضرورة ” أن يتم الفصل في المزرعة بين اولئك الذين يتحدثون لغة واحدة عن بعضهم البعض لمنعهم من التآمر” كان ذلك اقصي ما ذهب اليه الرجل في حق الأرقاء. أما تلميذه ارسطو فقد رأي ان العبودية جينات طبيعية تجري في عروق الأرقاء. عند أرسطو” فالعبد عبدا لأنه ولد عبدا، اى انه عبد بطبيعته لا يشترك في العقل الا بقدر ما يستطيع ادراكه لكنه لا يمتلكه ـ العقل ـ بنفسه” (دولاكامبان: تاريخ العبودية). نظرة الاسترقاق والدونية للشعوب الأخري هذه ظلت ثابتة عبر الحقب والقرون وحتي اليوم في مؤسسة الدولة في الغرب ولا تزال تمثل لحمتها وسداها.

ورغم قدم هذه المفاهيم من فترات ما قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام إلا انها ما تزال تشكل النظرة الغربية للأجناس والقوميات الأخري. سيحدث لها تطور وتجذير كبير عندما تتولي الكنيسة الكاثلوكية الامر بدورها في القرن الثالث عشر.
كانت أثينا تهاجم البلدان من حولها علي شواطيء المتوسط وتسترق من تهزمهم ليرسفوا في اغلال الإسترقاق هم واحفادهم. مثل ذلك فعلت الحضارة الرومانية ـ خاصة فترة “الجمهورية” ـ بضراوة كبيرة جدا في الحروب واستجلبت الرقيق من مقدونيا وقرطاج وشواطي البحر المتوسط الأخري وسائر البلدان التي استعمرتها، حتي بلغ عدد المسترقين في روما حسب المصادر التاريخية اكثر من مليون. كان كل ذلك قبل بعثة السيد المسيح عليه السلام.

وعلى كل استمرت افكار أرسطو هي المهيمنة في النظرة للآخرين كمخزون للعبيد والموارد يتم استرقاقهم متى ما تمت السيطرة عليهم بالغزوات. وبالرغم من أن الذين تم استرقاقهم كانوا في غالبهم العام أحرارا في حياتهم وشاء سوء حظهم الوقوع في الأسر، إلا أن أرسطو تعمد تجاهل هذه الحقيقة واعتبرهم أرقاء بالميلاد وانهم يحملون جينات العبودية.
ثم جاء دور الكنيسة الكاثلوكية وما أدراك ما الكنيسة الكاثلوكية..! هنا ربما يعلم غالب القراء أن تاريخ الكنيسة الكاثلوكية يرتبط إرتباطا قويا بجريمة الرق، فقد امتلكت الكنيسة نفسها أرقاء في الكاريبي وغيره وصمتت لقرون عن تجارة الرق التي مورست على الأفارقة. الغريب والصادم أن يعتنق بعض الأفارقة المذهب الكاثلوكي في جهل كامل بالتاريخ!.

نعلم أيضا أن الكنيسة الكاثلوكية شكّلت ولا تزال تشكّل مرجعية أساسية للحضارة الغربية ورسمت وما زالت ترسم ملامحها بقوة حتي اليوم رغم السقوط الأخلاقي الذي تواجهه تلك الحضارة. يمكننا في اشرة سريعة توضيح مدي السقوط الأخلاقي للكنيسة الكاثلوكية بالنظر لموقفها الراهن من قضية الشذوذ الجنسي والمتحولين جنسيا ومحاولتها او قبولها توطين هذت الشذوذ ضمن التعاليم المسيحية، (انظر للإقتباس من القس جون كوليت في وصف الكنيسه.. ادناه).
في القرن الثالث عشر ظهر الفيلسوف “توماس أكيوناس” Thomas Aquinas الذي رفعه البابا لمرتبة القديس لاحقا. تبني أكيوناس افكار ارسطو العنصرية بحذافيرها وألف العديد من الكتب وتتلمذ علي يديه الطلاب والقساوسة وما تزال أفكاره تدرّس حتي اليوم في الكنيسة، كما ألف العديد من الترانيم التي تردد حتي اليوم في قداس ” العشاء الأخير” Eucharist . ونظرا لتأثيره الكبير علي الكنيسة واجتهاده في الفلسفة وعلم اللاهوت أعلنه البابا جون الثاني والعشرين في العام 1323 قديسا “canonized ” . واعترافا بتأثيره الكبير علي الفكر اللاهوتي يعتبر الرجل ايضا قديسا في الكنيسة الأنجلكانية واللوثرية وغيرهما وهو أمر يدل علي مكانة الرجل الكبيرة في جميع المذاهب الكنسية رغم ما بين هذه الكنائس من مرارات طويلة. وفيما نعلم فبعض الكنائس لا تعترف بمنزلة ” القديس” التي تمنحها الكنيسة الكاثلوكية لبعض القساوسة نتيجة للإختلاف في المذاهب خاصة بين اللوثرية والكاثلوكية فبين الكنيستين ما صنع الحداد، وما سفك من دماء بين انصارهما يفوق الخيال. رغم ذلك نري ان الكنيسة اللوثرية (البروتستانت) ـ رغم تحفظات مؤسسها مارتن لوثر عليه ـ قبلت به كقديس رغم ان اللوثرية تري ان الكنيسة الكاثلوكية فاسدة ومنحرفة من قمتها الي أخمص قدميها. لبيان فسادها التاريخي و انحطاطها نكتفي باشارة صغيرة وصفها بها القسيس ” جون كوليت” كتدرائية القديس بوول الشهيرة في لندن St. Paul Cathedral ـ الذي كان رافضا لممارساتها وما يجري فيها ـ وصفها بأنها “foul and deformed harlot” او أنها “عاهرة مشوهة وقذرة”، راجع (عسكوري: حياكة الدجل).

و لذلك فاعتراف اللوثرية بأكيوناس كقديس يعكس مكانة الرجل وحجم تأثيره علي المسيحية وافكارها بصورة عامة.
طور اكيوناس أفكار ارسطو الممعنة في العنصرية لتصبح بمثابة الخطوط العريضة للعلاقة بين الكنيسة والممالك الأوربية إبان القرون الوسطي ثم اصبحت تمثل القاعدة الأخلاقية للفترة الإستعمارية بعد معاهدة ويستفاليا التي أسست للدولة القومية.
ظلت الكنيسة تمثل المرجعية الأخلاقية وتمنح المشروعية الدستورية لجميع الممالك والأمبراطوريات القائمة في اوروبا الغربية.
استندت الكنيسة في مفاهيمها علي ما طوره إكيوناس من مفاهيم عنصرية استنها ارسطو. تبنت الكنيسة مفاهيم اكيوناس العنصرية وضربت صفحا عن غزوات الأوروبيين الإستعمارية علي الشعوب. وكما رأي افلاطون وارسطو ثم الرومان انه لا يصح استرقاق اليونانيين او الرومان، تعطينا ممارسات الغربيين اليوم تأكيدا لتلك النظرة خاصة عندما تحدث أزمات في مناطق من العالم يكون من ضحاياها مواطنيين غربيين.
لقد كان لأفكار أكيوناس تأثيرا بالغا في مفاهيم الحضارة الغربية ونظرتها للشعوب الأخري تدرّس تلك المفاهيم حتي اليوم في مختلف الكنائس علي اختلاف مذاهبها، ما عدا الكنيسة الشرقية التي لم أعثر علي ما يفيد بتبنيها لمفاهيم أكيوناس بالنظر الي ان تاريخها أنظف بكثير من الكاثلوكية بالاضافة لصراعها المحتدم حتي اليوم معها خاصة بعد الحملة الصليبية الرابعة التي دمرت القسطنطينية ومعها كنيسة “اياصوفيا” معقل الكنيسة الشرقية لحين سقوطها في يد العثمانيين منصف القرن الخامس عشر 1453.
يذهب الإرث الفكري والممارسات السياسية في اثينا وروما و الكنيسة عميقا في مفاهيم مؤسسة الدولة في الغرب. فأغلب الأسر الأرستقراطية التي تتحكم في مؤسسة الدولة في الغرب حتي اليوم لها علاقات تاريخية ضاربة الجذور مع الكنيسة الكاثلوكية وافكارها التي شكّلها القديس والفيلسوف أكيوناس. وان تراخت قبضة تلك الأسر علي شعوبها قليلا نتيجة لنمو الوعي بالحقوق وانتشار العلوم، الا ان نظرة مؤسسة الدولة في الغرب للشعوب الأخري تظل هي النظرة التي استنها أرسطو وأسس لها أكيوناس.
بخروج أوروبا من القرون الوسطي وسقوط الإمبراطورية الرومانية مطلع القرن التاسع عشر وتوسع الحملات الإستعمارية علي الشعوب الأخري، حمل الغربيون معهم نفس افكار أكيوناس ليعاملوا بها الشعوب التي استعمروها. من واقع تجربة الاستعمار والمجازر العديدة التي ارتكبوها في شعوب كثيرة حول الأرض يمكننا الزعم بأن نظرتهم للشعوب لم تتجاوز نظرة ارسطو التي طورها أكيوناس. لقد صحب قساوسة الكنيسة الجيوش الغازية اينما ذهبت وشهدوا كثيرا من مجازر الشعوب التي تم غزوها دون سبب وصمتوا عن ذلك. بحثت كثيرا عن احتجاج من الكنيسة الكاثلوكية عن ابادة الهنود الحمر في الأمريكيتين او حملات تجارة الرق في افريقيا ولم اعثر علي شىء ذا بال. وما زالت الكنيسة الكاثلوكية تلتزم الصمت عن مرافقة قساوستها للجيوش الغازية وصمتهم عن المجاذر والإبادة.
هذه باختصار جذور نظرة الغرب للشعوب الأخري التي تكونت عبر القرون، اجترحها الفيلسوف اليوناني أرسطو وفصلها وعمقها القديس اكيوناس، وما تزال ماضية (بضابانتها) حتي اليوم.
ومع علمنا المسبق بأسس ومفاهيم الحضارة الغربية ونظرتها للآخرين، هل يتوقع أحد ان يخرج مرشحا رئاسة لدولة هي قائدة العالم الغربي عن تلك الأسس والمفاهيم الراسخة! فنحن في نظرمؤسسة الدولة الغربية لسنا أكثر من رعاع ودهماء نصلح فقط للإسترقاق (معذرة)، لن يهمهم ان سفك السودانيون او الأفارقة دماء بعضهم لقرون، بل ربما يفضلون افريقيا خالية من السكان كما حاولوا سابقا عندما استرقوا شبابها وتاجروا بهم عبر الاطلنطي!
لا ينف ما اوردناه ان في الغرب مصلحين يعملون لتحقيق العدالة والعيش مع الآخرين علي قدر المساواة لكنهم ما يزالوا قلة قليلة ضعيفة التأثير، اذ تظل مؤسسة الدولة في الغرب التي تسيطر عليها ذات الأسر الأرستقراطية القديمة المستندة علي الكنيسة الكاثلوكية بذات مفاهيم الإمبراطورية الرومانية وافكار ارسطو واكيوناس.
آمل أن يكون هذا المقال قد سلط قليلا من الضوء علي لماذا تجاوز المرشحين الرئاسيين لحرب السودان وقدم بعض الإضاءات لؤلئك الإخوة الذين تبرموا من تجاوزهما لحرب السودان، ففاقد الشئ لا يعطيه. بالبلدي (نحن أصلا ما محسوبين معاهم إلا بتلك الصورة التي اشرنا اليها، وليس هناك اي مبرر ليشيروا لـ (عبيد أفارقة يقتلون بعضهم البعض فى همجية في مجاهيل افريقيا)..!
نحتاج ان نعرف بدقة كيف ينظر الآخرون لنا حتى نحدد مسارنا علي المدي البعيد. هذا ما افتقدناه فى السابق ونفتقده اليوم وسيتم خداعنا وافتراسنا مرة اخري إن لم نفهم ونستوعب المنطلقات الحقيقية للآخرين، حتى نجترح طريقا جديدا للمستقبل.
باختصار نحن في نظر مؤسسة الدولة عندهم لسنا سوى فريسة ينصبون لها الشراك على الدوام. لماذا إذا يذرفون علينا الدموع ويذكرونا في مناظراتهم.؟
ورحم الله أمرئ عرف قدر نفسه.
هذه الأرض لنا.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق