علي عسكوري:
ذكرنا في المقال الاول كيف ان اتفاق الميرغني قرنق وضع السيد رئيس الوزراء في اختيارات صعبة. قبول الاتفاق يعنى خسارته لموقعه، ورفضه يعنى الاستمرار في الحرب.
للخروج من المأزق اتخذ رئيس الوزراء من التسويف والمماطلة منهجا، عسي ولعل ان ياتيه الفرج من السماء.
تضاعفت عليه في تلك الاونة ضغوط الجبهة الاسلامية لرفض الاتفاق من خلال اعلامها القوى في الصحف ومن خلال المسيرات التى كانت ترفع المصاحف وتبتز رئيس الوزراء بلافتات (شرع الله) وما الى ذلك من تجارة بالدين واستغلاله في السياسية. وعندما شعرت الجبهة الاسلامية ان ذلك لم يكن كافيا، قامت بعملية ارهابية لمحاولة اغتيال السيد محمد عثمان في منزله بالخرطوم (٢) ولسوء حظ المهاجمين كان السيد الميرغنى قد فرغ للتو من لقاء صحفي مع الراحل سيد احمد خليفة فاصابت الطلقات الكراسي التى كانوا يجلسون عليها كما فصل ذلك الراحل في خبر بصحيفته (الوطن)! كان ذلك سلوكا صادما وغريبا وجديدا على الصراع السياسي في السودان. عكست تلك العملية الارهابية الى اى مدى كانت الجبهة الاسلامية مستعدة للذهاب في رفضها للاتفاق. كان رد حكومة رئيس الوزراء على ذلك العمل الارهابي ضعيفا ولم يتم اعتقال من قاموا بالهجوم دعك من محاكمتهم في تواطؤ واضح من اجهزة الدولة على عمل ارهابي.
في هذه الاثناء كانت قدرة الجيش على القتال تتراجع نسبة للنقص في المؤن والعتاد والسلاح، وخسر عدة معارك. نتيجة لذلك قدم الجيش في فبراير ١٩٨٩ مذكرة لرئيس الوزراء لتوفير العتاد والسلاح حتى يستطيع مواصلة القتال. ومضت مذكرة الجيش اكثر من ذلك لتدفع في اتجاه الوصول لسلام لحقن الدماء، وهو ما ترفضه الجبهة الاسلامية لانه يعني نهاية برنامجها السياسي الديني. اعتبرت قيادة الجبهة الاسلامية ان مذكرة الجيش انقلاب على الحكومة.
وهكذا اتخذ الصراع منحي جديدا، ورئيس الوزراء يسعي بين الجيش من جهة وبين الجبهة الاسلامية من جهة.
ومع الحراك السياسي المحموم الذي اثاره الاتفاق تزايدت الضغوط الداخلية والخارجية على رئيس الوزراء لقبول الاتفاق بعد ان ثبت ان الجبهة الاسلامية ترفضه من حيث المبدأ.
ومن واقع تفاصيل التحركات السياسية تلك الايام اتضح ان رئيس الوزراء حسب احدى تصريحاته انه كان يبحث عن مخرج سياسي للجبهة الاسلامية التى وصفها ب(القط المحاصر)!
لقد كان اهتمام رئيس الوزراء بإيجاد مخرج للجبهة الاسلامية وحزبه من المأزق الذى وضعه فيهم اتفاق السلام اكثر بكثير من اهتمامه بتحقيق السلام. فبينما رأت كل القوى السياسية ان الاتفاق يمثل مخرجا للبلاد من كارثة الحرب انشغل رئيس الوزراء بإيجاد مخرج لحزبه و لفصيل سياسي صغير على حساب استقرار البلاد.
من غرائب السياسية السودانية ان يتفق رجلان بينهما ما صنع الحداد الراحلين (منصور خالد/ وحسن الترابي) الذين انتقلا للدار الاخرة بخلافاتهم وعند الله تجتمع الخصوم. فرغم خلافاتهم، اتفق الراحلان في الرأي حول رئيس الوزراء. فمنصور عليه الرحمة امتلأت كتبه بالانتقاد الحاد للسيد الصادق و وصفه بالمربك وانه يعتقد انه (مركز الكون)، اما الراحل الترابي فقد عرف عنه القول ان الامام الراحل متردد و indecisive. وهكذا التقي الخصمان اللدودان في رأيهما في رئيس الوزراء.
في احدى مقالاته اشار الدكتور عبد الوهاب الافندى ان السيد الصادق يريد من الجبهة الاسلامية ان تقوم بالنيابه عنه باشياء يرغب فيها ولكنه لا يستطبعها. وقد صح قول الافندى في موقف رئيس الوزراء من الاتفاق، فمن واقع الاحداث كان رئيس الوزراء يرفض الاتفاق من خلال (الجرجرة) الطويلة لثمانية أشهر، اذ لو كان يرغب في السلام لقبل الاتفاق و رحب به مباشرة وتبناه وعمل على انفاذه ومعالجة نواقصه لاحقا ان كانت به نواقص..! لكن (الجرجرة) الطويلة لا يمكن تفسيرها غير انها رفض مغلف للاتفاق!
بحلول يونيو كانت الضغوط على رئيس الوزراء قد بلغت مداها فاعلن انه يقبل الاتفاقية ولكن (بتوضيحاتها)! ولا احد يدرى الى اليوم ماهية تلك التوضحيات! كان ذلك نوعا من الحربائية في قضية جوهرية ان يكون موقفه half hearted. فالسلام قضية مركزية تعمل لها الشعوب والحكومات بكل ما تستطيع!
في يونيو كان القط المحاصر (الجبهة الاسلامية) قد رتب وحسم امره للانقلاب على السلطة القائمة رغم مشاركته في اجهزتها وبرلمانها. ولكن في حقيقة الامر فات على الجبهة الاسلامية انها من خلال الانقلاب لم تكن تدافع عن بقائها السياسي، انما كانت تغامر بمستقبل البلاد بأكمله، وقد كان!
قبل ايام قليلة من الاتفاق اجتمع عدد من القيادات السياسية من بينهم زعيم الحزب الشيوعي للراحل محمد ابراهيم نقدمع رئيس الوزراء واخطره صراحة أن لديهم معلومات مؤكدة بأن الجبهة الاسلامية تجهز لانقلاب عسكري في الايام القليلة القادمة وان عليه اتخاذ التحوطات لحماية البلاد. لم يتخذ رئيس الوزراء اى خطوات احتياطية لافشال الانقلاب. بل على العكس من ذلك وافق على سفر رئيس جهاز الامن المحسوب عليه (اللواء الهادى بشري) الى المانيا قبل يومين تقريبا من الانقلاب ليعود الرجل بعد عامين من الانقلاب ليلتحق وزيرا بالنظام الجديد. يضاف لذلك الطريقة التى هرب بها السيد مبارك الفاضل الى ليبيا صبيحة الانقلاب تثير الشكوك و يمكن ان يستنتج منها انه كان على علم مسبق بالانقلاب ولذلك كان (مرتب حاله) الافت في الامر ان السيد مبارك الفاضل لم يوضح الى اليوم كيف تمكن من تدبير حاله والخروج بتلك السرعة دون كل بقية قادة الاحزاب!
من ينقب ويبحث في وقائع الاحداث في تلك الفترة وما اتضح لاحقا بعد خلافات الاسلاميين وانشقاقهم، يستطيع ان يستنتج ان هنالك اتفاق على رفض اتفاق الميرغني / قرنق بين حزب الامة وبين الجبهة الاسلامية، ولم يجد حزب الامة والجبهة الاسلامية مخرجا من ذلك الاتفاق الا بتدبير انقلاب عسكرى يخلط الاوراق من جديد. وكان واضحا ان الاتفاق السري بينهما نص على ان تتم العودة للحكم الديمقراطى بعد ثلاثة سنوات كما اورد المحبوب عبد السلام في كتابه. ومن الوقائع اللاحقة اتضح ان الترابي فشل في السيطرة على الصقور في تنظيمه الذين استمرأوا الانفراد بالحكم، فدبر اخراج رئيس الوزراء الى اسمرا ليلتحق بالتجمع الوطنى ثم سافر ليجتمع به في جنيف، في محاولة لترتيب الاوضاع من جديد للعودة للاتفاق السري.
الفكرة في الانقلاب في رايي هى اخراج (القطتين) ( الجبهة الاسلامية وحزب الامة) من المأزق الذى وضعهما فيه اتفاق السلام. فالحقيقة التى لا تخطئها عين ان الاتفاق وضع حزب الامة نفسه في وضع شبيه بوضع الجبهة الاسلامية، فالتحول السياسي الذي كان سينتج من تنفيذ اتفاق السلام كان سيخرج الاثنين من السلطة لفترة طويلة الا ان الاخطر من ذلك هو سقوط اطروحاتهم الدينية مما يحتم عليهما البحث عن اطروحات سياسية جديدة بدلا عن اطروحاتهم الدينية القديمة، وكان ذلك يعني شهادة وفاتهما.
ما يمكن ان نخلص له ان جنوب السودان انفصل لحظة رفض حزب الامة والجبهة الاسلامية لاتفاق الميرغني قرنق، وقد تأكد الانفصال فعليا صبيحة ٣٠ يونيو ١٩٨٩، وليس في ٩ يوليو ٢٠١١م. اما ما جري من قتال بين الحكومة والحركة الشعبية بين التاريخين فقد كان تحصيل حاصل. وهكذا اهدرت تماء كثيرة جدا بين الطرفين لم يكن لاهدارها مبررا!
اعتقد الرجلان ان سحق الحركة الشعبية عسكريا كفيلا بارغامها على توقيع اتفاق اذعان يضمن لهما السيطرة المستقبلية على السلطة في البلاد ولكن هيهات. اللافت ان الجبهة الاسلامية ما كادت ان تسطو على السلطة حتى هرعت للبحث عن اتفاق سلام مع الحركة الشعبية دون ان تقدم اى مبررات لماذا رفضت اتفاق الميرغنى قرنق وقد وقعت مبادئه الاساسية مسبقا…! الم يكن ذلك اسلم ام انها قصة الذئب والحمل..! حاولت الجبهة العمل على عدة مسارات لاضعاف الحركة الشعبية وشق صفها، فاجتمع الدكتور على الحاج بالدكتور لام اكول في فرانكفورت واتفق معه على منح الجنوب حق تقرير المصير، وبالفعل قاد ذلك الوعد الى شق صف الحركة الشعبية وخروج ما عرف بمجموعة الناصر وقتالها ضد الحركة الشعبية. وهكذا ادخلت الجبهة الاسلامية قضية تقرير المصير لاول مرة في الصراع السياسي. كان ذلك لعبا بالنار بوحدة البلاد، ففصلت تلك الشرارة الجنوب احرقت البلاد وما تزال.
استنادت لما اوردنا في الجزء الاول من المقال فإن مسؤولية انفصال جنوب السودان تقع مباشرة على السيد رئيس الوزراء وعلى زعيم الجبهة الاسلامية عليهما الرحمة وليس على المؤتمر الوطنى، وما المؤتمر الوطنى الا مجموعة بيادق خاضت مع الخائضين و (شالت وش القباحة) برعونة تصل حد التألق، وقد كانوا مستعدين للاستمرار في الحكم والتمتع بمزاياه حتى لو تبقت لهم جزيرة توتي على قول الراحل خليل ابراهيم.
ختاما يحسب لمولانا الميرغنى انه بذل كل جهده للمحافظة على وحدة البلاد وما ابقي وكانت بصيرته ورؤيته نافذه، وبدلا من ان يشكر هو وحزبه على اجتهادهم السياسي لحقن الدماء وحماية وحدة البلاد تم التآمر عليهم وارهابهم بل حتى محاولة اغتبياله. لقد كان هنالك من يفضل السلطة على وحدة البلاد، فما حقق الوحدة ولا استمر في السلطة.
كان اتفاق الميرغنى/ قرنق اخر فرصة لبقاء البلاد موحدة، اهدرها طلاب السلطة وقصيري النظر.
سيبقي سجل مولانا السيد محمد عثمان ومن خلفه حزبه ناصعا فقد بذلوا الغالى والنفيس وما ابقوا لحقن الدماء والحفاظ على وحدة البلاد، ولكن التآمر وقصر النظر بدد كل تلك الجهود.
قال ابو الطيب:
فَلَقَد عُرِفتَ وَما عُرِفتَ حَقيقَةً
وَلَقَد جُهِلتَ وَما جُهِلتَ خُمولا
نَطَقَت بِسُؤدُدِكَ الحَمامُ تَغَنِّياً
وَبِما تُجَشِّمُها الجِيادُ صَهيلا
دخلت البلادمنذ انقلاب الجبهة في حروب متعددة ما تزال ملتهبة قضت على الاخضر واليابس وما تزال وللاسف لن تخرج منها قريبا..!
قال الراحل جون قرنق عشية توقيع اتفاق السلام الشامل:
“Sudan will never be the same again”.
وقد كان.
هذه الارض لنا
١٨ نوفمبر ٢٠٢٤