مقالات
من حكايا التأريخ القديم والمعاصر..
لواء شرطة (م) :د.إدريس عبدالله ليمان:
من قصص المطالعة التى درسناها فى المرحلة الإبتدائية التى عليها بعض المآخذ (كطه القرشى فى المستشفى ومحمود الكذاب) لرمزيتها الخبيثة .. درسنا قصة (سهام وإلهام) إحداهما من حلفا والثانية من الخرطوم .. وقصتنا اليوم ونحن بين يدى مانراه فى الوسائط الإعلامية من قلة القيمة وقلة الحياء والإنحطاط من مختلف الأعمار تحكى عن مليكة فتاة من الجاهلية الأولى وأم الحسين من الجاهلية المعاصرة .
فليس كل ما تنقله لنا كتب التأريخ من قصص ومواقف خالدة هى بطولة مطلقة وحصرية للزعماء والقادة وسادة القوم .. بل كثيراً ما نقلت إلينا رجاحة العقل وحسن المنطق لصغارٍ فى السن كِبارٍ فى الوعى والنضج .. وسأورد مثالين لفتاتين إتفقتا فى العمر وإختلفتا فى الزمان .
*بطلة القصة الأولى* فتاةً تبلغ من العمر ستة عشر ربيعاً تدعى *مليكة* وهى إبنة الحارث بن الطائى أحد أثرياء العرب فى الجاهلية وسيداً فى قومه وخُطبت لسيداً آخر هو الحارث بن عوف .. وعندما أراد أن يدخل عليها والبناء بها قالت له ( مه ) والله قيل لى عنك من الشرف مالا أراه فيك .. أتريد أن تتفرغ لنكاح النساء والعرب تأكل بعضها بعضاً فى حرب عبسٍ وذبيان ..!!؟ إذهب وأصلح بينهما ولن يفوتك منى ماتريد ..!! فقال فى نفسه وهو يتمتم بكلماتٍ تعنى أنه على مضض لكنه صبر حتى النهاية وذهب مع صاحبه بيرم بن سنان وبعض قومه وأقام الصلح بين عبسٍ وذبيان ودفع من ماله الخاص ثلاثمائة ناقة من عاليات السنام كديَّاتٍ للقتلى .. ومن ثم أقيمت الأفراح كما ينبغى ونُحرت الذبائح من الإبل والغنم وكانت سبباً فى حقن الدماء وإنهاء الحرب *العبثية* الحقَّة ..
*وبطلة القصة الثانية* هى *أم الحسين* فتاةً سودانية من إحدى قرى القضارف .. فقد حدثنى من أثق فى صدق حديثه ( وقد أوردتُ القصة من قبل فى إحدى المقالات ) أنّ وفداً رفيع المستوى من المفوضية السامية لشئون اللاجئين كان فى زيارة لإحدى مراكز إستقبال اللاجئين الأثيوبيين فى ولاية القضارف لتفقد أحوالهم ومعالجة مشكلاتهم ، وفى ختام زيارته طلب لقاء الأهالى من سكان القُرى المحيطة بالمعسكر والقريبة جداً من الحدود مع أثيوبيا وسألهم عن إحتياجاتهم الضرورية وكيفية جبر الضرر الذى أحدثه أولئك الذين لجأوا إلى مناطقهم يبتغون الأمان عندهم ..!!؟ فتحدث شيوخ القرية معددين ما يرونه ضرورياً من خدمات يحتاجونها والضيف الأممى يسجل مايقولونه .. وبعد أن إنتهى الكِبار من حديثهم إنبرت صبيَّة لايتجاوز عمرها ستة عشر ربيعاً تـدعى *أم الحـسين* كانت حاضرة لخدمة الضيوف وطلبت الإذن من شيخ القرية وتحدَّثت بكل أدب البداوة وفصاحتها وقدمت مرافعة أخلاقية وإنسانية بليغة وببساطة وعفوية ، تجاوزت فيها كل مدونات العهدين الدوليين للحقوق بأنواعها والميثاق العالمى لحقوق الإنسان ، بل والقانون الدولى الإنسانى بأسره ، بفطرتها النقيَّة وسودانيتها الأصيلة ، وقالت فى ما قالت : ( *إننا لا نطلب ثمن إستضافتنا لإخوتنا فى الإنسانية وفى الجوار لأن ديننا الحنيف أمرنا بالإحسان إلى الجار ، كما أمرنا بإكرام الضيف وبهما يكتمل الإيمان ، فأهل السودان جُبِلوا على إغاثة الملهوف وتأمين الخائف وإطعام الجائع .. هل تعلمون أيها الحضور الكريم أن أهل هذه القرية والقرى المجاورة عندما سمعوا دوى المدافع وأصوات الإنفجارات عشية الأحداث عند جيراننا شدوا مئزرهم ( وإتحزموا ) وأعدوا للأمر عدته ، وذبحوا شياههم التى يُطعمون من حليبها صغارهم ، وطحنوا عجينهم وملأوا قدورهم لحماً ومَرَقَاً ، وما أن تنفَّس الصبح إلاَّ وإمتلأت المنطقة بجيراننا وإخوتنا فى الإنسانية وهم جوعى متعبين ، فآويناهم وأطعمناهم من جوعٍ وأمنَّاهم من خوف ووقفنا على خدمتهم إمتثالاً لأمر ديننا وإستجابة لأخلاقنا السودانية ..!! وحينها كان المجتمع الدولى الذى تمثلونه بعيداً عن الصدمة الأولى .. !! فما ظنكم بنا وأنتم لاتعرفون شيمُنا ..!!؟ فإن كنتم لامحالة فاعلين فالمستشفى وآبار المياه والإنارة وغيرها أولى بالإهتمام من غير سؤال فالحال يغنى عن السؤال* ) وحينها تحدرت الدموع على خدود الأزمة وسالت مشاعر الناس جداول..
*فمن أيهما نعجب ..!! من أم الحُـسين أم من مليكة .. أم نعجب من جاهليتنا المعاصرة ..!!؟
حفظ الله بلادنا وشبابنا من كل سوء .
الإثنين ٢ ديسمبر ٢٠٢٤م