مقالات
قبل الحوار السوداني/ سوداني
علي عسكوري:
تروج وسط القوى السياسية السودانية فكرة ما تسميه بالحوار السوداني/ سودانى كحل للقضية السودانية. وفى حالة من (أم هلهلة) تكاد تشبه الهذيان تصرخ هذه القوى كما صرخ ارخميدس (287-212 ق م) قبل اكثر من الف سنة: ” وجدتها وجدتها”. هل فعلا وجدتها أم أن ما يدور هو هروب من واقع مرير تسببت فيه هذه القوى مجتمعة لتأتي وتقترح ان تتحاور وكأنها لم تتحاور من قبل؟.
من واقع التاريخ، فإن القوى السياسية السودانية في حقيقتها اكثر من تحاور مع بعضه بين شعوب الارض، وثبت ان العبرة ليس فيما تتحاور حوله انما المشكلة الاساسية في الالتزام بما تتفق عليه القوى والعهود التى تقطعها لبعضها.
بداء الحوار بين مكونات المجتمع السوداني باكرا قبل اكثر من ٥٠٠ عام بين الفونج والعبدلاب وافضي ذلك الحوار الى اتفاق سياسي نفذ على الارض وتقاسموا السلطة على اساسه، لكن سرعان ما تم التنكر له مع تصاعد الاطماع السياسية فنتج عن ذلك حروب كثيرة بين (الطرفين).
ولنترك التاريخ البعيد ونعود لفترة الاستقلال مرورا بالمائدة المستديرة ولجنة الاثني عشر، كلها حوارات فاشلة لم يلتزم بها احد خاصة حزب الامة ومناصريه من جبهة الميثاق.
ثم جاء انقلاب الراحل نميري، وعقد اتفاقا مع حركة (انانيا)، ، ثم سرعان ما تنكر له وقال حسب ما تواتر: “ان الاتفاق ليس قرآنا”.
سقط نميرى وجاءت فترة من الحكم المدنى و عندما تحاور عدد من اساتذة الجامعة مع الحركة الشعبية بحثا عن السلام فيما يعرف بندوة (امبو) اعتقلهم وزير الداخلية وقتها السيد مبارك الفاضل في استغلال صادم للسلطة. ثم قام انقلاب الانقاذ، وعقد العديد من المؤتمرات بما فيها مؤتمر السلام او هكذا اسموه، ثم انغمست الانقاذ في سلسلة من المفاوضات مع الحركة الشعبية استمرت لقرابة العقدين، في اثناء ذلك عقد التجمع الوطنى الديمقراطى (شمل جميع القوى السياسية المعارضة لنظام الانقاذ) واصدر ما يعرف ب”مقررات اسمرا للقضايا المصيرية” التى اعتبرتها القوى السياسية فتحا جديدا من شأنه ان يفض لحل مشكلة الحكم في السودان.
انتهت حوارات ومفاوضات الانقاذ مع الحركة الشعبية بالاتفاق على فصل الجنوب، اما مقررات اسمرا للقضايا المصيرية فقد نسيتها القوى التى وقعت عليها وكأنها لم تكن!
لقرابة السبعة عقود ظل السودانيون يتحاورون، داخل بلادهم وخارجها، وفي حقيقة الامر لم تبق عاصمة في دول الجوار او في الغرب لم يجتمع فيها السودانيون و (اصدقائهم) في مؤتمر او سمنار الخ ليناقشوا قضية بلادهم. سيصعب على اى باحث حصر السمنارات وورش العمل وحلقات النقاش والحوارات التى انعقدت لمتاقشة قضايا السودان في مدن مختلفة من العالم! ولو جمعنا الاوراق التى استخدمت في تلك الاجتماعات والسمنارات لشيدت لنا برجا من مائة طابق، اما الاحبار التى دلقت علي تلك الاوراق فدون شك كافية لتجري كنهر مواز لنهر النيل، كل ذلك ذهب ادراج الرياح دون عائد. رغم ذلك ما زال القوم يسعون للحوار!!
والحال كذلك هل نحن حقيقة في حاجة الى حوار جديد وقد قتلنا كل القضايا بحثا ولم نبق. ترى ما الجديد الذى سيناقشه الحوار المزمع. ما هى تلك الفكرة الالمعية والحل السحري الذي يمكن ان يخرج به الحوار ! ام هي محاولة اخري من لعبة (ملوص) التى تجيدها القوى السياسية لتلهي نفسها وتدندن منفردة (الحوار .. الحوار) لتلوكها ردحا من الزمن ثم ترميها جانبا كما فعلت بمقررات اسمرا، ثم تنهض لتبحث عن حوار جديد!
ان الحقيقة التى يتجنبها الجميع هى ان القوى السياسية قوى خؤونه.. تخون العهود وتخون ما تتفق عليه ولا يرتد لها طرف. وقد كتب السياسي الجنوبي ابل الير كتابا عن خيانة العهود والمواثيق وكان صادقا في زعمه. الاغرب من ذلك ان ايا من القوى السياسية لم ترد على التهمه الثقيلة التى رماها بها. في سبهلليتها المعهودة اعتبرت ما كتب امر عادى لا يستحق الرد مع انها تهمة عظيمة لو يدرون! فأسوء ما يمكن ان يتهم به قوم هو خيانة العهود!! ولو كانت خيانة العهود امر عادى لما تناولها المولي في كتابه.
من يتابع سلوك القوى السياسية يدرك بسهولة انها تؤمن بالمثل:” مليون نطة ولا بعبوص واحد” كما يقول تجار السوق! تمارس القوى السياسية هذا المفهوم السوقي السىء في اخطر القضايا ولا تكترث، ولذلك انتهت بلادنا الى ما انتهت اليه من حروب لا تتوقف قضت على الاخضر واليابس والحبل على الغارب!
ان تركنا الحرب الحالية جانبا، فليس هنالك قضية جديدة لم تتم مناقشتها، عشرات بل مئات الاوراق قدمت في مختلف القضايا ولم تترك شاردة ولا واردة، و لذلك على القوى السياسية وقبل ان تنظم مؤتمرا اخر لتزجية الوقت، ان تجتمع لتناقش : لماذا لا تلتزم بما تتفق عليه، ولماذا تخون العهود؟!
قال تعالي: ” وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا” (الاسراء)، “وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ”. (النحل).
الاتفاق السياسي في جوهره عهد بين القوى السياسية يهم كل الامة والمواطنيين وخيانته خيانة للامة تؤثر على حياتها واستقرارها، ومن المؤسف ان تكون المجتمعات غير المسلمة اكثر التزاما منا بالعهود والوفاء بها، ونحن امة تزعم الالتزام بالاسلام لكننا نضرب قيمه ومبادئه الاساسية في مقتل كل مرة!
ان استطاعت القوى السياسية العثور على حل لوقف سلوكها في خيانة العهود، ستتحل مشاكل السودان تلقائيا، فما قتلنا شىء غير نقض وخيانة العهود!
القضية ايها الناس ليست في الحوار، بل في الالتزام بما يفضي اليه الحوار!
قال تعالي: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم (الرعد)”.
هذه الأرض لنا