
الجميل الفاضل:
إن الدستور الإنتقالي الذي توافقت عليه صباح أمس مجموعة “تحالف السودان التأسيسي”، والذي بموجبه تم الغاء “الوثيقة الدستورية الإنتقالية لسنة (2019)، هو دستور ليس “كلاما ساكتا”، فقد نشأ أول ما نشأ ضد “عنف الدولة” الموجه هو ضد شعبها بالأساس، بل من بين سطور هذا الدستور بإمكاني أن أقرأ: أنه دستور قد جاء أول ما جاء، لكي يكبل ويضع الأغلال، علي يد “غول” أزهق أرواح ملايين السودانيين منذ أن بدأ مايسمي بالحكم الوطني، هذا “الغول” في تقديري هو “الدولة” نفسها، وذراعها الباطش “جيشها”، الذي ظل يبتلع (82) بالمائة من مواردها.
لكني علي أية حال، لست أدري كيف حدث كل هذا الذي حدث؟ وبهذه الطريقة التي تشبه المعجزة، وهذه الصورة والشاكلة التي خرج عليها هذا الدستور في النهاية؟.
إذ لا تفسير لي سوي القول: أن كائنات إسطورية ربما كانت تحلق في ذلك المكان من نوع “السمندل” الذي يأبي أن يحترق،أو “طائر الفينيق” الذي ينهض كما إعتاد من تحت الرماد.
ولذا أعتقد إن لحظة سحرية غامرة، صاغها علي حين غرة “متغير خفي”، كان يدب بين الناس وفي جوانحهم، دبيب نملة سوداء، علي صخرة صماء، في ليلة ظلماء، هو متغير من شدة خفائه كان لا يسمع له همس، ولا يري له شبح.
المهم فإن هذا الدستور الذي يقابل الي الآن على الأقل بقدر من البرود والحيرة ونوع من الإستهانة، سيكون هو نفسه لا محالة علامة فارقة تضع نقطة وتفتح قوسا، لتفسح طريقا يفضي لغد أفضل، ولمرحلة تختلف.
فالمجترون لعلكة التاريخ سيظل شأنهم شأن الأبقار الكسولة، التي تدمن بحكم العادة مضغ ما تستعيده من جوفها من خشاش.
إذ أن العقول الجامدة تظل دائما موصولة بأوتاد الأمس والماضي، ترعي في فلك التاريخ هكذا بقيودها.
بيد أن حقيقة كبري أخري تقول هي: أن من يده في الماء، لن يكون موقفه أبدا كمن يده في النار.
ولهذه العلة الراسخة من تجارب البشر، فإن ما يكتبه المعذبون في الأرض، يكون في الغالب أقرب إلى كبد الحقيقة، مما يكتبه المنعمون فيها والمترفون عليها، الذين كثيرا ما تشوش المداراة، والمراوغة، وكثرة الحسابات المعقدة، والإعتبارات المتباينة، والمصالح المتقاطعة.. رؤيتهم، فتعقل بالتالي ألسنتهم، وتعكر صفو فكرهم بالضرورة.
وللحقيقة فإن دستور الإنتقال الذي سطره تحالف “تأسيس” بمداد يخرج مع الأرواح من شرايين ضحايا قصف المدافع، وبراميل الطيران المتفجرة.
أظن أنه دستور يخرج من عمق سحيق في التاريخ يستلهم ربما حتي ماخطر علي “خاليوت بن بعانخي”، وأثبته في مقدمة ميثاقه أو دستوره المسطور بمعبد جبل البركل قائلا:
“لكي أرسم الطريق للأحفاد الذين يأتون بعدي في هذه الدنيا، والي الذين يخلفونهم والي الأبد” مفصلا:
“إنني لا أكذب، ولا أعتدى على ملك غيري، وقلبي ينفطر لمعاناة الفقراء، إنني لا أقتل شخصا دون جرم يستحق القتل، ولا أقبل رشوة لأداء عمل غير شرعي، إنني لا أعتدى على ممتلكات المعبد، بل أقدم العطايا للمعبد.
إنني أقدم الخبز للجياع، والماء للعطشي، والملابس للعراة”.
هو دستور أدعي لو أنه أنتقل من صخور البركل، الي صدور “البراءون”، و”الشفشافون”، و”صانعو الكباب البشري”، لأن يعقلن بنادقهم، وفولاذهم الطائر فوق المساكن ليخبز سكانها، إن دستور “خاليوت” من شانه كذلك أن يعيد سكاكينا تجز الآن الرؤوس، لترقص علي إيقاعها رقصة الثأر والإنتقام والتشفي، قادر أن يعيدها هو “خاليوت” ودستوره الي أغمادها لو أن معبده صار في قلوب أعطبها الغل، والحقد، وشيئا من طباع العقارب.