
خالد الفكي سليمان:
في مشهدٍ يقطر مرارةً ويدمي الضمير الإنساني، تواصل منظمات إنسانية وحقوقية دولية وإقليمية إصدار بياناتٍ جوفاء، تتوشّح بعباراتٍ منمقة وتفيض بتصنّع العطف، بينما تنزف الفاشر دماً وتُسقى أراضيها بدماء الأبرياء. إنها دموع التماسيح التي تُسكب متأخرةً، بعد أن خنق الحصار أنفاس المدينة، وجفّ الزاد، وبلغت المأساة حدّ أن اضطر الأهالي لأكل طعام الحيوانات “الأمباز” للبقاء أحياء.
لما يقارب الاثنين وعشرين شهراً، يرزح سكان فاشر السلطان علي دينار تحت حصارٍ خانق فرضته مليشيات آل دقلو الإرهابية، التي حولت المدينة إلى سجنٍ كبير ومحرقةٍ مفتوحة، تمارس فيها أبشع الجرائم من قتلٍ وسحلٍ واغتصابٍ وتجويعٍ ممنهج. وبينما تسيل الدماء وتُزهق الأرواح، تكتفي تلك المنظمات بإصدار بياناتٍ مكرورة، تلوك المفردات ذاتها، وتغسل يديها من الدماء بمدادٍ باردٍ من النفاق الإنساني.
من المخجل أن يعلو نحيب العالم اليوم على قبور الضحايا، بينما صمّت آذانه بالأمس عن صرخاتهم، وتجاهل نداءاتهم في لحظة الحقيقة. فبدلاً من تحريك القوافل الإنسانية والغذائية لكسر الحصار، آثرت المؤسسات الدولية الصمت، وتركت الفاشر تواجه مصيرها وحدها أمام تتار العصر الحديث.
لكن التاريخ لا يرحم، وسيسجّل بأحرف العار كل من تواطأ أو تغافل أو اكتفى بالفرجة. فالفاشر — مدينة الصمود ورمز الكرامة — ستنهض كما نهضت الخرطوم والجزيرة وسنار، وستعود إلى حضن الوطن مرفوعة الرأس. وحينها، سيدرك العالم أن دموع التماسيح لا تطهّر الضمائر، ولا تمحو خطايا الصمت، وأن بيانات التواطؤ لن تمحو تفاصيل روايةٍ كتبتها فاشر السلطان بدماء أبنائها وصبر نسائها وصمود شيوخها وأطفالها.
khalidfaki77@gmail.com


