منوعات وفنون

الأحاجي البجاوية.. سرد فولكلوري مختلف

بقلم/ عبدالله رزق أبوسيمازة:

يستدعي كتاب (باكاش، وأحاجي من شرق السودان) الذي قام بجمعه وإعداده الاستاذ عادل سيد أحمد ، والدكتورة نعمات مصطفى ، المقارنة مع كتاب ( أب لحاية) ، الذي يضم خمسين من أحاجي الشايقية، في شمال السودان، والذي جمعه و أعده الأستاذ عادل سيد أحمد ، وصدرمن دار آرام ، التي أصدرت كتاب باكاش، أيضا -وهي مقارنة قد تعكس في مجملها التمايزات بين ثقافة مجتمع زراعي مستقر ، وآخر في حالة بداوة-.
تتميز نصوص باكاش ، وعددها ٣٨ ، بالقصر الواضح ، ويمكن في إطار المقارنة المشار إليها التقرير بأن نصوص باكاش تتسم بالواقعية، وهي تحاكي الواقع وأحداثه بدون محركات سحرية وبدون أشخاص يتوفرون على قدرات خارقة للعادة كما هو شأن الأحاجي، في غالب بلاد السودان.

وتتصف هذه المجموعة الموسومة بأحاجي الشرق، بكونها ذات غاية تعليمية واضحة ، إذ ترشد لحكمة محددة، أوتحض على استثارة الذهن للتفكير فيها، أو لاستخلاص مغزى القصة إن لم تفصح عن نفسها في نهايتها.

وتفتقر هذه النصوص التعليمية من ثم ، للإثارة والتشويق، والأجواء الخرافية المميزة للأحاجي للتوسل بها للوصول إلى أغراضها. اذ يختتم النص -أحيانا- بإيضاح هذا المغزى أو تلك الحكمة المبتغاة، ففي (الشجاع العنيد ) نموذج لذلك حيث تنتهي القصة بأن الشخص الرئيس (قد فهم ووعى المقولة التي تؤكد أن الشجاعة طبع – ص ٤٩).

وتختتم قصة (همد آمسا ) برجوع البطل (وقد فهم المقولة التي تقول : إذا تركت المرة التي عندك ، فلن تجد تلك الحلوة التي عند غيرك ص١١٠). الفهم والإدراك العقلاني هو ما تتقصده أحاجي الشرق، لذلك قد تثير مجموعة باكاش التساؤل حول تعريف الأحجية وسماتها، فهي تخلو كليا من الشخوص التقليدية المعروفة ، وعوالمها الميتافيزيقية : الغول والجن والسحار، ومن الأفعال التي يحركها السحر ، ومن فاطمة السمحة ، التي يتزوجها محمد الشاطر، بعد أن يحررها من أسر الجن أو الغول ، ويخوض في سبيل ذلك ، معارك ضارية ، ويقطع بحورا عدة للوصول إليها، تعبيرا عن انتصار الخير على الشر.

وتجسد شخوص باكاش بواقعيتها ، قيما يسعى المجتمع لنشرها ولترسيخها : الشجاعة، الكرم ، المروءة ، والشهامة ، الحكمة ..الخ ، لذلك يمكن القول إن قصص باكاش لم تصمم لتسلية الأطفال ، ليلا، وإلهائهم ، حتى يناموا ، كما هو شأن الحاجي ، عادة ، إذ أن بعضها أكبر من قدراتهم على الاستيعاب ، حين يكون غرض الأحجية الواضح هو تحريض المتلقي على التفكير ، فيما لايصلح بعض آخر لحساسية موضوعاته ، المتمحورة حول الشرعي وغير الشرعي في العلاقات الزوجية : (قصاص الأثر ص٨٥)، ( الرجل الغريب ص٤٣)، ( الأولاد والجد ص١١٨) . الأمر الذي يعزز فرضية أنها لم تصمم للأطفال ، دون سن البلوغ ، وأنها ليست من تأليف النساء ، كما افترضت ، في قراءتي لمجموعة ( اب لحاية). ثمة ما يشير إلى أن بعض النصوص هي نتاج مثاقفة مع مجموعات سكانية أخرى ، من ذلك، خلافا لما قد توحي به حياة البداوة الموغلة في العزلة ، النص الذي يتضمن قصة مشهورة تنسب للشيخ فرح ود تكتوك وبنته ، التي جاءته ، إثر خلافها مع زوجها.
كذلك حالة المرأة التي تتحول الى ضبع (مرفعين )، عندما تضطجع وتتقلب فوق (بيت النمل ) ، فهي معتقد سائد عند بعض الجماعات السودانية. ولها ما يناظرها ، وسط بعض قبائل اليمن ، حسب بعض المصادر ، تزعم تحول أفراد إحدى القبائل إلى ذئاب في أوقات المجاعات.
ثيمة المهرة التي يتقرر ذبحها ، وفق مكيدة ، بزعم معالجة سيدة من المرض ، وردت (عجيلة ، عجلة صغيرة ) في إحدى قصص (اب لحاية). وكذلك الفارس المتنكر، الذي يلتحق بجيش الحاكم ، ويخوض له حروبه وينتصر فيها ، فيزوجه إحدى بناته .
تتضمن المجموعة قصصا على لسان الحيوان ، على نهج عبدالله بن المقفع وجان دو لافونتين ، مثل : (الغراب والثعلب ص٦٩) ، ( الصقر والثعبان ص ٨٣) ،( لا تتزوج من الاغراب ص٩٤).
أما القصة الوحيدة ، التي يلعب فيها الجن دورا رئيسيا ( وادي الجن ص١٣٠) ، فتحكي عن حرب بين البجا وعشيرة من الجن ، بسبب نزول البجا في واد للجن واستيطانه . وهي مشابهة لحرب بين الجن وبنو سهم ، وقعت في الجاهلية، نتيجة قيام الجن بقتل رجل منهم، فاستنفر بنوسهم ، وهم عشيرة من قريش قوتهم وصعدوا الجبال ، وشرعوا في قتل الحيات والعقارب والخنافس والسحالي ، إلى أن صرخ الجن ، وطلبوا من قريش التوسط للصلح بينهم وبين بني سهم . وقد حكاها شوقي عبدالحكيم في كتابه ( الفولكلور والأساطير العربية ). في القصتين ، اللتين انتهت فيهما الحرب باتفاقيات صلح ، يتخذ الجن هيئة عقارب وثعابين ، غالبا .
على قلتها العددية ، فإن مجموعة ( باكاش ) لا تعكس ملامح واضحة لبلاد البجا ، الممتدة من البحر الأحمر ونهر النيل ، وتميز ثقافتهم ، أو تاريخهم الممتد لأكثر من أربعة الف عام ، خصوصا ، الفترة السابقة للتأسلم والاستعراب.

وكما افترضت عند دراستي لمجموعة (اب لحاية ) أن الحجوة ، كنص شفوى ، قد تفقد بعضا من خصائصها المكتسبة من اللغة الأصلية، عندما تنتقل لنص مكتوب ، فإن من المتوقع أن تكون مجموعة باكاش – التي يبدو أن تأليف بعض نصوصها قد تم في عهد قريب وأحدثها حجوة عثمان دقنة “ص ٣٥” ، وكيف تحدى قائد الجيش الانجليزي – قد فقدت بعضا من نكهتها ، حين انتقلت من لغة البداوييت إلى العربية والإنجليزية ، ومن الشفوي إلى المكتوب أو المدون .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى