مقالات
الجميل الفاضل يكتب: ثورة البنات قادمة
في يوم المرأة العالمي أقول: إن أكبر مستحيل صار ممكنا، بل وواقعا في ثورة ديسمبر المجيدة التي تدخل الآن عامها الخامس، هو أنها “ثورة بنات” مثّلنَ فيها الحدث الأطرف، والعنوان الأبرز بامتياز، علي خلاف ما جري عليه الحال والعادة، في ثورتي “اكتوبر وابريل” المؤودتين.
إذ ليس صدفة أن بسالة وصمود ثائرات ديسمبر قد أخرس السن المتنطعين بفقه لا يري المرأة سوي من ثقب باب ضيق، إنها “عورة”، وأنها لا تصلح بالتالي لأن تقود، او أن تكون “ثورة”.
لم يك احد يصدق حينها، أن زرقاء “الأحفاد” المتشوفة بيقين صادق، والثورة في مهدها أنها تعني تماما ما كانت تقول وهي تصدح “يا بنات ابقن ثبات، ثورتنا دي ثورة بنات”.
لقد اشفقت حقا علي كواهلهن من باب الرفق بالقوارير، من وطأة ما طرح عليهن، من لقب ملوكي تاريخي ثقيل الوزن، تعاملن معه بشرف مستحق، ونلنه عن جدارة.. رغم أنه لقب مقدس خرج اليهن من عمق سحيق يقدر بآلاف السنين، لقب “الكنداكة” ذلك الحافل بالأمجاد، والرمزيات، والدلالات، والمحمولات.
المهم فإن “ديسمبر” ليست ثورة واحدة، مثلها مثل “اكتوبر وابريل”، بل هي في الحقيقة ثورة مركبة بجوفها عدة ثورات، من بينها ما اسمينه البنات: “ثورة بنات”.
يقيني إن طورا من هذه الثورة سيقدنه البنات في قادم الأيام لا محالة، سيقدنه قيادة مطلقة لا شية فيها، فالبنات “الغاضبات” اللواتي أبين الا أن يزاحمن بالمناكب والأقدام، “ملوك الاشتباك” من الفتيان، في تصدر المواكب ومقدماتها، وفي قطف قنابل الغاز بأناملهن الرقيقة كالورود، وفي ردها كأمانة الي أهلها باسرع ما يكون، وباقصي مدي يطاله الرماة.
لقد اذهل رميهن شاعر ثوري وصاف قال في حقهن:
“معنا الان سرب النساء البواسل
سرب البنات الأمازون إذ يتلقفن قنبلة الغاز طازجة
ثم يبعثنها وهي ملفوفة في الدخان لمن ارسلوها”.
هو يقين ربما يعززه ما أكدته نتائج الأبحاث التي أجراها عالم الوراثة الإيطالي البروفيسور لويجي لوكا كافللي، والتي ضمنها كتاباً أسماه (في الشتات : تاريخ التنوع الوراثي، والهجرات البشرية الكبري) قال فيه: “ثبت أن 90% من النساء السودانيات يحملن جينات متصلة دون إنقطاع منذ مائة ألف عام”.
ولهذا فإن “ديسمبر” ثورة لن تموت، لأن ديدنها أن تمضي علي طريقة سباقات التتابع، فقد قادها المهنيون من أماكن العمل، الي ان بلغوا بها محطة اعتصام القيادة، والي ان قلبوا الطاولة علي كافة الرؤوس، في اليوم المشهود ٣٠ يونيو (٢٠١٩).
وتقودها اليوم كذا لجان المقاومة من الأحياء، في عسر ومشقة، يفسرها علم الفيزياء علي قاعدة تقول: إن المقاومة تساوي النسبة بين فرق الجهد وشدة التيار، إذ أن مقاومة أي جسم تقاس بمقدار ما يسمح به من سريان للتيار المار به او عبره.
ويسر بعد عسر كان ولا يزال،
الي أن يأتي كسحائب الغمام التي ستظلل عروش “الكنداكات”، فننتصر بهن كرأس رمح علي استبداد الطغاة، كما انتصرت جدتهن الكنداكة “اماني ريناز” علي جيوش الأباطرة الغزاة.
أكاد أجزم الآن أن السودان قد اضحي بؤرة ومركزا لزلزال ثوري كوني واسع النطاق والمدي.
وأن من هذا المركز ذاته فإن ثورة للنساء خاصة قادمة علي طريقتهن، لكي تسفه احلام العودة للعمل بأي قانون يشبه قانون النظام العام تحت اي مسمي جاء، ولصور تشابه صور كابوس جلد “فتاة الكبجاب” وغيرها من جديد.
فالمرأة عموما يتصور معتنقو عقائد “الاسلام السياسي” في مشارق الارض ومغاربها، أنها أقصر حائط يمكن تسوره تقربا لله، هذا يحدث اليوم من طهران الي كابول، لقد ظن هؤلاء الادعياء أن اقصر طريق لإبراز عضلات ما يتوهمون انه الدين، لابد أن يمر اول مايمر علي أجساد النساء، من اعلي رؤوسهن، الي أخمص اقدامهن.
لكن هيهات.. فايران اليوم لا يمكن ان تعود الي ما قبل عصر “مهسا اميني” الفتاة الكردية التي اشعلت وفاتها خلال احتجاز صنو “النظام العام” في السودان، شرطة “الاداب الايرانية” لها في سبتمبر الماضي، موجة من احتجاجات لعبت فيها النساء الإيرانيات ادوارا قيادية، الي ان صار شعارها الرئيسي “المرأة، الحياة، الحرية”.
وفي كابول حظرت حركة “طالبان” الإسلاموية التعليم الجامعي للفتيات، فضلا عن طرد النساء من المعاهد والمكتبات، وحرمانهن من العمل بالمنظمات.
المهم فالاسلام السياسي ملة واحدة، ملة لا تأبه ولا تكترث في اي زمان ومكان، لأقوال وأفعال رسول الاسلام عليه الصلاة والسلام، الذي وصف النساء بأنهن شقائق الرجال، وأن ما اهانهن الا لئيم، وما أكرمهن الا كريم، ممارسات من يحكمون باسم الدين ماهي في الحقيقة سوي تجسيد حي لخطاب حركات الاسلام السياسي المستريب دوما في المرأة، وفي حقوقها، وفي أدوارها داخل المجتمع؟.
وبكل أسف فإن الحُكم في سودان ما بعد الإستعراب صار شأناً ذكورياً محضاً، لا يجوز ولا ينبغي للنساء أن يحدّثن أنفسهن بتسنّم شُمِ ذراه، أو باعتلاء مراكز قراره، خاصة المُتصّل منها بأمانِ الناس من خوف، وبجدارة إطعامهم من جوع.
فذكور الساسة في السودان على رعونتهم وطيشهم، واستبدادهم وفسادهم، بل وتاريخ سفكهم الدماء، وضآلة وبؤس كسبهم لبلادِهم على طريق التطوّر والنماء، لا زالوا يتوهَّمون في أنفسهم حكمةً وقدرةً على الحكم والإدارة لا تتوفّر لدى النساء.
رغم أن لنساء السودان تاريخاً في الحُكم ضارب بجذوره في القِدَم.. وكما هو معلوم فإن ملكات مملكة مروي كان يطلق عليهن لقب “كنداكة” ذات هذا اللقب الذي أعاده إلى الحياة والوجود مُجدّداً دور المرأة السودانية المشهود في ثورة ديسمبر المجيدة.
فقد جاء بسِفر (أعمالِ الرسل) الإصحاح الثامن:
“وإذ برجل من إثيوبيا، كان وزيراً ببلاط الملكة كنداكة، والمؤتمن على جميع خزائنها”.
والثابت من ذِكر الملكة كنداكة أن المقصود بأثيوبيا هنا هو السودان الحالي.
ويشرح الأب “فانتيني” الإيطالي هذا النص الذي وردت فيها كلمة الحبشة، بقوله:” القنداقة ملكة الحبش، هي ملكة مروي كبوشية، لأن هنالك عدداً من الوثائق تؤكد أن هذا اللقب يختص بملكة مروي كبوشية”.
المُهم فإن ازدراء الرجال اليوم بحكم النساء عموماً، لن يمحو على أية حال تاريخاً تليداً لنساء هذه البلاد في الحُكم امتد لآلافِ السنين وثّق له مؤرخون أفذاذ، وأشارت إليه كُتب مقدسة قديمة في معرض تمجيدها لعظمة شعب كوش، الذي إتسم بظاهرة حكم النساء دون سائر الشعوب في ذلك العصر.