منوعات وفنون
الضحكة هناك من جوة الجوف
معتصم الشعدينابي:
منذ بدء عمليات الهجرة العكسية القسرية ولا أقول النزوح، من العاصمة الخرطوم إلى مختلف ولايات السودان، بعد اندلاع الحرب العبثية في ١٥ أبريل ٢٠٢٣م، تبارى شباب وشيوخ وأطفال ونساء وشابات كل قرى ومدن الولايات، المقصودة في اصطياد أكبر غنيمة من الضيوف، فمنهم من ظفر بأسرة ومنهم من طاب له مثنى وثلاث ورباع من الأسر، كل حسب حدود احتمال مساحته المادية التي تتسع نفسه أضعافها.
هذا (الكم الممتع) من الضيوف استقبله أهالي الولايات القريبة من العاصمة حيث عاد آلاف السكان الذين هاجروا مجبرين إلى الخرطوم قبل عقود من الزمان، ولم يكن أحدهم يفكر أنه سيعود إلى موطنه بهذه الكيفية على الرغم من أن الجميع يحلم بالعودة إلى الجذور بعد أن يحقق ما كان يتمناه ويعمل له، أو بعد أن يفشل في تحقيق ما كان يظن أنه سهلا وغاصت رجلاه في وحل الخرطوم ولم يفلح في اقتلاعهما إلا بعد رؤية وسماع وتذوق صوت وطعم الموت.
لم يكن أهلنا في القرى والأرياف يطمعون في تحقيق مشاهدات أعلى على حساباتهم الشخصية، فبعضهم لا يملكون حتى الهواتف الذكية و -هم أذكى منها بكثير- ولا حاجة لهم في ذكائها، ولم يكن أي منهم يخطط ليصبح أيقونة في زمن الحرب، ولكن صدق نواياهم وابتعادهم عن الإعلام ، دفع بهم جميعا ليتصدروا المشهد ويصبحون أيقونات للحياة في زمن الموت.
الجزيرة، القضارف، النيل الأبيض، شمال كردفان، الشمالية، وكل الولايات غير المشتعلة كانت قبلة منكوبي العاصمة التي تحولت (في ضحوية) إلى قطع من الجحيم.
الوسائط تناقلت الأخبار والصور بشغف وتلقفتها الوكالات والفضائيات، ولكن ليس بالقدر الذي يساوي حجمها لأن الكارثة كانت أكبر والصدمة كانت أعنف ولم يخففها إلا مصدات أهلنا الطيبين في المعابر والمداخل قبل أن يتم ابتلاع الضيوف بنجاح.
لظروف قاهرة أغيب عن هذه اللوحة بشقيها الحزين والجميل، ولكني أتابع الشقين على مدار الساعة كما يفعل كل سوداني بعيد.
أطلب يوميا من بعض الأصدقاء أن يمدوني بصور ومقاطع فيديو غير التي أطلع عليها في الوسائط لتعينني على الكتابة والتعبير، حتى تراكمت عندي الصور والفيديوهات ولم استطع التعبير بل زاد الأمر صعوبة ولكني أحاول الآن ما استطعت.
ما يفعله أهلنا في القضارف، الجزيرة، الشمالية، وفي نهر النيل بدءا بشندي ومرورا بالدامر وعطبرة، يبهج النفس ويغسل بعض الأسى.
استمتع بشكل يومي ببراعة (قناصة) الدامر وهم يفلحون في اقتناص الناجين من مصيدة شندي المنصوبة على طريق التحدي لا ختطاف الضيوف مجهولي الوجهة وإكرام العابرين قسراً.
ومايفلت من الدامر تصطاده نسور عطبرة.
وهذه رحلة طويلة لا أستطيع سرد تفاصيلها حتى بورتسودان أو أبوحمد.
هذا غير اللوحة المرسومة بشريان الشمال في الملتقى والدبة ومروي وكريمة ونوري ودنقلا وحلفا وما بينها من قرى فرقان وحلال.
ديل أهلي
اسمحوا لي أن أتوقف قليلا في الدامر، حيث أبدأ يومي بنداء عثمان سعدالله، وكأني أسمع صيحته عبر صفحته وهو يذكر الشباب من الشاعديناب وكل مناطق الدامر بأن قد حان موعد التوجه إلى المعسكر في مدخل مدينة الدامر (العبور) على طريق الخرطوم بورتسودان والخرطوم أبوحمد. وهناك تبدأ رحلة الإكرام الإجباري للضيوف إما بإنزالهم واستضافتهم أو تزويدهم بمتطلبات السفر التي تعينهم على ما تبقى من مشوار حتى إكمال رحلتهم.
تتخلل هذه الأحداث قصص ومبادرات يتميز فيها الخبيث من الطيب.
ماقام ويقوم به أهلنا في المدن والأرياف فشلت في تحقيقه الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بهلاله وصليبه وما بينهما من أشكال وشعارات ودول وأشباه دول.
لا نقول شكراً للحرب التي أعادت إلينا الثقة في أنفسنا ولكن نشكر الله ونحمده أن وفق بعضنا في امتصاص الصدمة وتخفيف آثار الحرب الفاجعة وإصلاح بعض ما أفسده دعاة الحرب ونافخي كيرها.
نسأل الله الرحمة والمغفرة لشهدائنا وعاجل الشفاء للجرحى والمصابين.
ونأمل أن تصلح هذه (العترة مشيتنا ) لنكمل المشوار.