سياحة وآثار وتراث
“الميديا” الحرة توثق للبادية الغربية في زمن الحرب
د.أحمد التجاني ماهل:
تتنوع البادية الغربية بكردفان ودارفور بمكوناتها الاجتماعية والثقافية وأصالة تراثها وقيمها الموروثة وموقعها الجغرافي ضمن حزام السافنا الغنية ذات الطبيعية الغنية بغاباتها وأشجارها وجيواناتها البرية مما اكسبها جمال طبيعة جذابة ذات مناظر خلابة تسكن الوجدان لقاطنيها وزوارها وخاصة في فصل الخريف كما في قول الشاعر الفحل عمر الشيخ رباح رحمه الله:.
حلوة البادية في دار كردفان الغرا
يا حليل العرب الديمة ساكنين برا
مسكوا طبايع الجد والتراث بالمرا
رزم ليهم رعد الخريف سحابهم جرا
فهذه الطبيعة والتنوع الاجتماعي والثقافي أكسب هذه البادية حب اهلها وتمسكهم بها والعيش فيها رغم قساوة الظروف في بعض فصول السنة والاهمال الذي طالها وإنسانها من قبل الدولة الرسمية على الرغم من مساهمتها في الاقتصاد الوطني بزيادة الدخل والناتج القومي بفاعلية ولم تجد التنمية والاهتمام بها وبإنسانها وبالتالي غياب الخدمات الاساسية للإنسان والحيوان التي تمثلت في عدم توفير المياه مما يساعد في الاستقرار وزيادة الانتاج والتعليم الذي يطور الانسان ويرتقي به ليزيد من إنتاج ثروته بطرق علمية ولم تجد هذه البادية وانسانها الطريق إلى وسائل الإعلام الرسمية للدولة والتعريف بها وبمكوناتها رغم جمال طبيعتها التي تصلح أن تكون مناطق سياحة بمناظرها وصيدها وبالتالي يجهل بها الكثير من أهل الاقاليم الأخرى. وفي هذا الجمال يصور الشاعر عمر الشيخ رباح تلك الطبيعة:
الليلية السقت دار كردفان أمطارها
أصبح صيدها يرجف وشاري جنحيه حبارها
المزنة أم شبوب مي الراحلة قالة غبارها
فاقت فينا كيف فوقة التحن لحوارها
وغياب الإعلام المرئي الرسمي للدولة عن هذه البادية وانسانها ساهم في عدم معرفتها رغم ثرائها بالأدب والتراث وفي المقابل ركز هذا الإعلام وأعني البرامج الثقافية والتوثيقية والتعريفية عبر التلفزيون القومي على بوادي وتراث مناطق محددة لدرجة أن أحيانا تجد في قنوات العاصمة الأربعة نمط تراثي واحد في ساعة واحدة، بالإضافة إلى إنسان البادية نفسها وخاصة المتعلمين والمثقفين والرسميين لم يوثقوا لها إلا عبر مجهودات فردية قليلة ولم تصل إلى باقي أهل السودان الذين انهدشوا لها عند ظهورها في الميديا الحرية عبر منصات التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية والفضاء المفتوح في زمن الحرب اللعينة وبداوا يتسالوا من اين هذه الأغاني الجميلة ومن أين هذه المكونات الاجتماعية؟ بل وصلت الدهشة مدها عند مشاهدات الجميلات من تلك البادية وفيهم من يقول هل ديل سودانيين؟ وفيهم من ينجر من صنقور رأسه ويقول ديل تشاديين وديل ليبيين وديل مالييين وديل نيجريين ولكن نقول لهم ديل سودانيين وبدو اقحاح عاشوا في هذه البادية لمئات السنين ولكن ظلم أولى القربى الذين عمدوا التجهيل بهم وجعلهم وقود للحروب.
أظهرت هذه الحرب اللعينة عبر الفيديوهات بعض مكونات هذه البادية والتراث وبعض الحسناوات أمات عقصا (جمع عقصة بكسر العين والعقصة عندنا في البادية الغربية أي المسيرة أم الضفيرة الطويلة) يعنى ناس أم قرون ديل هن أمات عقصا جرن للتراب فهذه البادية لا عيب فيها لمن يعرفها وتظهر صورها في قول الامير عبد القادر الجزائري في قصيدتها من فضائل البادية:
يا عاذرا لامرئ قد هام في الحضر
وعاذلا لمحب البدو والقفر
لا تذممن بيوتا خف محملها
وتمدحن بيوت الطين والحجر
لو كنت تعلم ما في البدو تعذرني
لكن جهلت وكم في الجهل من ضرر
أو كنت أصبحت في الصحراء مرتقيا
بساط رمل به الحصباء كالدرر
أو جلت في روضة قد راق منظرها
بكل لون جميل شيق عطر
تستنسقن نسيما طاب منتشقا
يزيد في الروح لم يمرر على قذر
أو كنت في صبح ليل هاج هاتنه
علوت في مرقب أو جلت بالنظر
رأيت في كل وجه من بسائطها
سربا من الوحش يرعى اطيب الشجر
فيا لها من وقفة لم تبق من حزن
في قلب مضنى ولا كدا لذي ضجر
نباكر الصيد أحيانا فنبغته
فالصيد منا مدى الأقات في ذعر
فكم ظلمنا ظليما في نعامته
وإن يكن طائرا في الجو كالصقر
يوم الرحيل إذا شدت هوادجنا
شقائق عمها مزن من المطر
فيها العذارى وفيها قد جعلن كوى
مرقعات بأحداق من الحور
تمشى الحداة لها من خلفها زجل
أشهى من الناي والسنطير والوتر
ونحن فوق جياد الخيل نركضها
شليلها زينة الأكفال والخصر
هذه البداية غنية بطبيعتها وجمالها ومكوناتها الاجتماعية والثقافية وتنوعها واعتزاز اهلها بها وللمراة مكانة تجسدها أشعار البادية العامية والفصيحة ويقول العمدة عبد الحفيظ حسن محمد ناصر أبو ركوك:
أهلا مرحب حباب هندا في ديار السافل
شبهك بالبياحات في المغارب جافل
تلقي بلدنا زاخر وبالروايع حافل
هوادجه بحاكن الشقق المقابلة الساحل
أما إبن البادية المخضرم الشاعر الفذ فضيلي جماع يقول:
رسمت على الماء وجهك يوما
وحولك شمس!
وخلفك سهل عليه الرعاة
يغنون للسحب الهاربات
رسمت القرى
والجداول والطير
وانت على حافة القلب
تمشين لاهية بالنوار!
تمدين كفا طريا
إلى جبهتي فتخمد بين الأضالع نار
وتنشب نار.
فهذه هي باديتنا التي لا يعرفها غيرنا ونعتزم بها كل الاعتزاز وتصورها اشعارنا:
نلقى الخيام وقد صفت بها فغدت
مثل السماء زهت بالانجم الزهر
قال الألى قد مضوا قولا يصدقه
نقل وعقل وما للحق من غير
الحسن يظهر في بيتين رونقه
بيت من الشعر أو بيت من الشعر
أنعامنا إن أتت عند العشي تخل
أصواتها كدوي الرعد بالسحر.