مقالات

والله مشتاقين

على عسكوري:

ما ان انتشرت اخبار عبور الجيش الى الخرطوم حتى ارتفعت توقعات الجميع وتزايد احتمال العودة للخرطوم وسط الكل، واحس الجميع ان حلم العودة الظافرة لوطنهم ومساكنهم بدأ يتحقق.

الخرطوم رغم كل شىء مدينة تهوانا ونهواها تعرفنا ونعرفها، نحبها وتحبنا، وفجأة وفي ليلة حالكة السواد وجدت نفسها تحت سنابك تتار العصر.. فنظرت شمالا ويمينا فلم تعرف فيهم احدا، وطفقت تسأل عن بناتها وبنيها اين ذهبوا؟

ذبلت ازهارها وخلت طرقاتها وشوارعها، وماتت فيها الحياة وصمت خرير مياه النيل واحتمى بسره الدفين منذ الابد.

فالنيل الذى وهب الحياة لاسلافنا عبر القرون صمت في اباء يتسآل: من هولاء، من اين اتوا؟ مالهم يدنسون ضفافي ولا يعرفونى! أين ابنائي، ماذا جرى لهم، اخبرني ايها الصفصاف قد تعلم بعد ان اصابت نيران التتار روبتك. لقد سقيتك عمرى كله والان تدير لى ظهرك كأنك لا تعرفنى! اخبرني اين ابنائي وبناتى، مالهم تركونى وحيدا..! لمن تجري مياهي اذن! من هؤلاء القوم! الا يعلمون ان مياهي تنظف الملابس المتسخة! مالهم يتبرزون عند ضفافي ولا يأبهون! لا اعتقد انهم يعرفونى ولم يسمعوا بي! سأصمت حتى يعود ابنائي لى، اعرفهم جيدا.. سيعودون وان طال الزمن، اعرفهم يحبونى واحبهم، سنحتفل ونغنى و سترقص امواجى فرحا بعودتهم. اراهنك ايها الصفصاف سيعود ابنائي جميعا وسيملأون ضفافي فرحا والقا.

رغم اننى عشت طفولتى وصباي في قرية صغيرة في شمال السودان وامضيت غالب حياتي وشقاوة الصبا لعبا على ضفة النيل وسباحة فيه، الا اننى لم انزل قط الى النيل في الخرطوم! سأعود وسأفعلها هذه المرة. سأغوص الى الاعماق واشرب كما كنا نفعل ونحن صغار. سأهمس الى موجة كسيرة الخاطر معتذرا، لقد تركنا الامواج حزينة تبكى في صمت عند الشاطىء وحدتها بعد ان رحل الاطفال ورحلنا. لا يعرف الاوباش لغة الامواج ولا يفهمونها:

بتطلعى انتى من غابات ومنى انا
ومن صحوة جروف النيل مع الموجة الصباحية

كما كتب الدوش وغنى الراحل وردى!
هل يعرفون علاقة الجروف بالموجة ورزازها..! هل يعرفون اى شيء اصلا!

من لا يعرف النيل وسره لا يعرف الخرطوم ابتداء!
اشتقت لرؤية مياهه تجري منسابة تهب الحياة لملايين البشر دون من او اذي.

من اكثر الاشياء التى اثارت استغرابي في هذه الحرب، هى كيف لاوباش الصحراء ان يعيشوا على النيل! فالحياة على النيل تختلف كليا عن حياة الصحارى، ولا يمكن لهولاء الاوباش العيش على النيل. فالحياة على ضفة النيل تعنى الاستقرار والتحضر والرقي وهى مقومات اساسية يفتقدونها كلها! وقد شاهدناهم يرعون (معيزهم) في حي (كافوري) الراقي شرق مدينة بحري!
محاولة الاوباش العيش في الخرطوم كمحاولتك خلط الزيت بالماء! كانوا سيحولون االخرطوم الى منطقة رعي واسعة للابقار والحمير والاغنام، ولا نقول هذا افتئات عليهم، بل تلك هى حياتهم التى لا يعرفون حياة غيرها. الم ينشروا ملابسهم الداخلية لتجفيفها داخل حديقة القصر الجمهوري! وان كان قائدهم تاجرا للحمير فما بالك بمن دونه، ربما تاجر بعضهم في (الضبابة) او (ابو الدردوق)!

تتطلب مثل هذه النقلة في اسلوب الحياة من فيافي وغفار الصحاري الى ضفة النيل عقودا واجيالا ربما بحتاجون الى انتظار الجيل الثالث او الرابع ليعرفوا معنى المدنية والحضارة (رغم ان ركوب العجلة ما بتنسي فالبدوى يظل بدوي) وتتطلب كذلك خلق علاقة مع مكونات الطبيعة الجديدة ومنها النيل وهم لا علاقة لهم بالنيل نهائيا. ولم استغرب الرواية التى ذكرها لى من اثق في روايته ان احدهم قال عن النيل (دى موية بتاع الفلول)!

نحلم ليل نهار بالعودة الى مدينتنا نشتاق ونتوق اليها و نتألم ببعدنا عنها، على كل الذين رحلوا الاعتذار للنيل بعد العودة، فقد تركناه وحيدا يتفرس في وجوه القوم فلا يعرف احدا… فيصمت ويتحول خرير مياهه الى دموع!

كم نشتاق اليك يا اصلنا وفصلنا يا واهب الحياة يا والدنا، اعذرنا فلم يكن بمقدورنا اخذك معنا. سنطأطىء روؤسنا معتذرين عند قدميك فاقبل اعتذارنا، نحن ابنائك لسنا عاقين فقط

نضل احيانا ولكننا نعود … حتما نعود!
و والله مشتاقين..!

هذه الارض لنا

العنوان مقتبس من اغنية للراحل عثمان مصطفي.

 

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق