سياحة وآثار وتراثمقالات

السودان في ذاكرة الأيام

عين على الحرب

الجميل الفاضل:

لطخ “بلابسة” الحرب وجه السودان، بأسوأ صورة ما كان يمكن، أن تخطر والي وقت قريب، علي عقل وبال.
فقد صدرت هذه الحرب للناس وجها، مُعِّرا مُظلما وقميئا، وجها للسودان مثير ربما، للغثيان، والكُرهِ، والإشمئزاز، في مقابل وجه مشرق وضيء وباهر، ظل يحمله الناس عن هذه البلاد، طوال حقب ما قبل “الإنقاذ”.. وجها ناصعا يعكس بهاء سيرتها، ونقاء سريرة أهلها، بإستقامتهم علي مكارم الأخلاق، وبصدقهم وإخلاصهم علي صحيح الدين، وعميق التدين، إسلاما، وإيمانا، وإحسانا.
ثم والي ان عاد السودان مجددا الي البريق والألق في العام (2018)، فصار مضربا للمثل من جديد بما قدمته “ثورة ديسمبر المباركة” من نموذج ثوري فريد ليس ثمة مثله في هذا العصر.
المهم فإن الذاكرة قد عادت بي اليوم لما كتبته قبل أكثر من ست سنوات تقريباً، حيث كانت الدراما المصرية قد رفعت من قبل ذِكر المهندس النمساوي الأصل، المصري الجنسية، “السوداني، الروح، والقبر، والهوية”، “جوليوس فاجوجون”، الذي عاش لأكثر من ثلاث عقود بين السودان ومصر، الي ذروة الحدث الثقافي، من خلال مسلسل تلفزيوني ذاع صيته انذاك، عنوانه: “الخواجة عبدالقادر” جسدّ فيه الممثل المصري الراحل “يحي الفخراني” دور البطل “الخواجة عبدالقادر”، تلك الشخصية بالغة التعقيد، من خلال أبعادها المزدوجة الروحية، والإنسانية، والأخلاقية، في عمل درامي فريد، قدم في الحقيقة صورة تختلف للإسلام، عن أنماط التطبيق الشائهة، والمناقضة لجوهره، ولروح التدين فيه، تلك الأنماط التي بلغت بنا ذروة العنف والدموية، في هذه الحرب.
أنظر كيف قال يحي الفخراني: “أن المسلسل عبر عن نموذج للإسلام الحقيقي، الذي يخاطب المشاعر، والوجدان، قبل أي شيء”.
لكن السؤال ما هي علاقة هذا المهندس متعدد الهويات بالسودان؟
فهو يقول بنفسه في حوار أجرته معه صحيفة “الأضواء” السودانية في (11 مايو 1969)، أنه ولد من أم المانية، و أب نمساوي، في العام (1907) ببلدة صغيرة بضواحي فيينا، وأنه حضر للسودان عام (1933)، للعمل كمهندس تابع لشركة “جيبسون وشركاؤه” الإنجليزية، في بناء خزان جبل اولياء، وكشف جوليوس للصحيفة أنه قرأ كثيراً عن الأديان، ومن بينها الأسلام الذي قال أنه جذّب إنتباهه بصفة خاصة، فضلاً عن ملاحظاته الشخصية المباشرة التي إستوقفته: “في سلوك المسلمين بالسودان، وطريقة ادائهم لشعائرهم الدينية، من صلاة، وصوم، وحلقات ذكر، مشيراً الي أن كل ذلك دفعه للتفكير في إعتناق دين الإسلام”.
لكن المهندس جوليوس، مضي الي القول: أن المفاجأة الكبري جاءته عبر رؤيا منامية صادقة، رأي فيها شيخه عبدالباقي المكاشفي، يدعوه فيها لزيارته بالشكينيبة، مبيناً أنه في اليوم التالي مباشرة لهذه الرؤية، ذهب الي ود مدني بالقطار، ومنها بعربة الي المناقل، التي توجه منها الي الشكينيبة، ليعلن إسلامه علي يد الشيخ المكاشفي في عصر اليوم نفسه.
و يقول جوليوس الذي أصبح أسمه منذ ذلك اليوم عبدالقادر: “لاحظت علي أفراد الحلقة التي كان يجلس أمامها الشيخ عبدالباقي اثناء قدومي، وكأنهم كانوا يعلمون سلفاً بحضوري ذلك، رغم أني لم التق أحدهم من قبل، بل كنت أظن أن الشخص الوحيد الذي كان علي علم بسبب وجودي في تلك اللحظة هناك هو الشيخ المكاشفي فقط”.
وكأنما أنطبق علي حال الخواجة عبدالقادر حينئذ، وصف تلميذ آخر لشيخ الشكينيبة، هوالشيخ أحمد الشايقي، الذي المح الي قدرات شيخه الخارقة، جاءت في ومضة سريعة خاطفة حملتها أبيات مشهورة تقول:
“قهوتك تجذب
ترمي غير فحمة
غير يجيبو النار
مويتك تحمي”.
فكلما قعدت بالقلوب الصادقة الأسباب عن بلوغ مرام شريف، نهضت الأرواح تهفو الي عناق غريب، في سوح اليقظة أوعند المنام، كان يبدو مستحيلاً علي أرض الواقع.
ورغم أن الخواجة عبدالقادر لم يفصح في حوار “الأضواء” عن لغة التخاطب بينه والشيخ المكاشفي في ذلك اليوم، إلا أن مصادر أخري أشارت الي أن الشيخ قد خاطب جوليوس، بلغة أمه الالمانية، إضافة للإنجليزية.
إذ تقول روايات المحبين: أن الشيخ المكاشفي يتحدث بطلاقة أكثر من لغة اجنبية متي ما استدعي حال أضيافه ذلك، وأنه كان يخاطب الوافدين عليه من سائر البلدان كلٌ بلهجته، بل قبل أن ينبس زواره غريبو الوجه واللسان ببنت شفه، ويذهب بعض العشاق الي أبعد، فيقولون أن المكاشفي أعطي منطق الطير، ومنطق الوحوش، وأنه كان يُكلّمُ الطير، وتكلمه الوحوش والسباع كذلك.
ويضيف الخواجة عبدالقادر قائلاً: ثم خصص لي الشيخ خلوة خاصة مكثت فيها بالشكينيبة (14) شهراً بعد أن إستقلت من عملي بالشركة، ليبتعثني بعدها لاداء فريضة الحج، ثم للدراسة في الأزهر بمصر.
ويمضي الخواجة عبدالقادر الي أن يقول: “إن الشيخ المكاشفي أصبح مثّلي الأعلي فيما بعد، بل وأصبح عندي بمثابة الخير الذي يطلب لذاته، فضلاً عن أن حبي له زاد أكثر، بعد أن إتخذني إبناً وأعطاني إسماً كريماً هو، عبدالقادر”، فاجريت تبعاً لذلك تعديلات في جواز سفري النمساوي، وجنسيتي المصرية.
فلا غرو أن الشيخ المكاشفي عرف علي نطاق واسع بتخلقه بالأخلاق النبوية، وبإتباع وترسم السيرة المحمدية السمحاء في كل خطاه، حيث وصفه كثير من معاصريه: “بأنه شخص تسرك نظرته، وترغبك في الآخرة فعاله، وتزهدك في الدنيا خصاله، لا يري لنفسه فضلاً علي أحد، ولا يمن علي من أرشد، لين العريكة، حسن المجالسة، جميل الملاطفة، إذا حدث صدق، وإذا عاهد أوفي، بل وكان لا يقابل أحداً بما يكره، متواضع للناس ولله، يكرم أهل الفضل، والأقارب، ويصل الجيران، لا يستنكف مجالسة، ومطاعمة، ذوي البلايا، والعاهات، يداً بيد، ينفق من القليل، ولايستكثر في إنفاقه الكثير”.
إذن فمن مدرسة مثل هذا التصوف السوداني، خرجت للناس قصة الخواجة عبدالقادر المثيرة، التي كان مسرحها السودان في ثلاثينيات القرن الماضي، وما صاحبها من تحولات مدهشة للغاية، في رحلة حياة مهندس الري “جوليوس” الجديدة، التي بدأت بقدومه الي منطقة جبل اولياء لغرض المشاركة في بناء خزان مياه، وهو مهندس أجنبي صغير السن في عمر ال(26) تقريباً، قبل أن يخضع لتأثير مبارك لا يقاوم، من شيخ سوداني مهيب ذو مقام روحي رفيع، هو الشيخ عبدالباقي المكاشفي، الذي بلغ آنذاك من العمر (76) عاماً، تأثير تم عبر ميكانيزمات إتصال غير معهودة في عرف، وثقافة، “جوليوس” الغربية المادية، ليغرق هكذا مهندس المياه في بحار حب، بلا قرار، ولا ساحل، هجر تحت لجج مياهها الجوفية العميقة، مهامه ذات الصلة بخزن المياه السطحية.
لكن المؤكد أن الأثر الذي غرسه الشيخ المكاشفي في تلميذه الأوروبي الأصل، ظل باقياً الي مابعد إنتقال الشيخ الي دار الخلود في الثالث من يونيو سنة (1960)، ليختار هو بعد (25) سنة قضاها في مصر، طريق العودة مجدداً للسودان مهده الروحي الأول، في سبعينات القرن الماضي، لكي يتوسد ثري قرية “ود أب آمنة” في جوارٍ أبديٍ، ليس بعيداً عن مرقد شيخه الكبير في “الشكينيبة”.
تلك القرية التي كان قد إنقطع للعبادة فيها في آخريات أيام حياته، بغار داخل غرفة تملكها السيدة رابعة بنت المكاشفي بقرية “ود أب آمنه”، ضمت رفاته بعد وفاته، فاضحي قبره ضريحاً يزار إلى يومنا هذا.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق