الجميل الفاضل:
ما يقارب سبعة ملايين إمرأة وفتاة من أهل السودان، قطعن أكثر من عام ونصف، تحت طائلة جنون ذكوري صرف، إنها شهور هي للدقة تنحو اليوم للعشرين، هي شهور كوالح قضينها “حرائر السودان” في ضيافة الجحيم.
إنه جحيم مطلق، ظل يطاردهن أينما حللن، وحيثما أرتحلن، هو جحيم كتب عليهن، لا لشيء سوي لأنهن من نوع حيوي المزاج، يأبي بطبعه كافة صور وأشكال نقض الحياة.
المهم فقد هدد وجود مثل هؤلاء الذكور الأشرار، حياة الإنسيات السودانيات، وأحالها إلى جحيم وعنف لا يطاق، عنف ظل يذهبهن علي أية حال، إما بالقتل، أو بالإغتصاب، أو بالتشرد في المدائن القريبة، أو حتي بالمنافي البعيدة ما وراء الحدود، يطاردهن شبح القهر النفسي، والإستغلال اللإنساني الفج لأجسادهن، باسترقاق جنسي، أو بممارسة بغاء قسري، بل وبكافة موبقات ومآسي الحروب الأخرى.
فقد صادف أمس الإثنين، اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة، وبالطبع ليس ثمة عنف أشد إيلاما على النساء خاصة، من عنف الحروب وويلاتها.
لكن يبقي في ظني أن العنف ضد المرأة السودانية، الذي يجري الآن تحت غطاء الحرب، ما هو الا عنف انتقامي ممنهج، لم يستثني أيا من القوي الحية التي صنعت ثورة ديسمبر المجيدة، وليس ببعيد عن الاذهان، ذلك الصمود الأسطوري لثائرات ديسمبر اللواتي مثلن الحدث الأطرف، والعنوان الأبرز، في ثورة كان لهن فيها السهم الأوفر، والقدح المعلي، فاخرسن السن الأدعياء المتنطعين بفقه لا يري المرأة سوي من ثقب باب ضيق أنها “عورة”، وأنها لا تصلح لأن تقود، أو أن تكون “ثورة”.
لقد أذهل رميهن شاعرنا الثوري الوصاف الراحل محمد المكي ابراهيم الذي قال في حقهن:
“معنا الآن سرب البنات الامازون، إذ يتلقفن قنبلة الغاز، ثم يبعثنها وهي ملفوفة في الدخان لمن أرسلوها”.
هو يقين عندي بفرادة المرأة السودانية لا يتزحزح، ربما يعززه ما أكدته نتائج خلص إليها عالم الوراثة الايطالي لويجي لوكا كافللي، كان قد ضمنها كتاب إسمه “في الشتات: تاريخ التنوع الوراثي، والهجرات البشرية الكبري” قال فيه: “ثبت أن (90) بالمائة من النساء السودانيات يحملن جينات متصلة دون إنقطاع منذ مائة ألف سنة”.
متصلة دون إنقطاع منذ بداية نشوء النوع البشري علي وجه الأرض والي يومنا هذا.
ومن هذا الإتصال الجيني، بدا لي أن الحكمة في السودان بالضرورة “أنثي”، وأن ما نبحث عنه للخروج من هذا المأزق التاريخي، الذي أنتهي بنا الي أسوأ حرب علي الإطلاق، قد تركناه في الحقيقة ب”بسطام” النساء.
بيد أن ذكور الساسة في هذه البلاد، علي رعونتهم وطيشهم، ونزقهم بالحكم، وتاريخ استبدادهم، وفسادهم، وسفكهم للدماء، ومع ضالة وبؤس كسبهم لبلادهم علي طريق التطور، والنماء، لا زالوا يتوهمون علي علاتهم الكثيرة تلك، حكمة وقدرة علي الحكم والإدارة لا تتوفر لدي النساء.
رغم أن لنساء السودان في الواقع تاريخا في الحكم ضاربا بجذوره في القدم.. إذ كما هو معلوم، فإن ملكات مملكة مروي كان يطلق عليهن لقب “كنداكة”، ذات هذا اللقب الذي أعاده الي الحياة والوجود والحضور مجددا دور المرأة السودانية المشهود في ثورة ديسمبر المجيدة.
فقد جاء بسفر “أعمال الرسل” الإصحاح الثامن: “وإذ برجل من إثيوبيا كان وزيرا ببلاط الملكة كنداكة، والمؤتمن علي جميع خزائنها”.
ويشرح الأب “فانتيني” الايطالي هذا النص الذي وردت فيه كلمة الحبشة بقوله: “القنداقة ملكة الحبش، هي ملكة مروي كبوشية، لأن هنالك عددا من الوثائق تؤكد أن هذا اللقب يختص بملكة مروي كبوشية”.
فالمرأة السودانية علي مر الحقب، ليست كائنا عاديا، ولا أحتياطيا، ولا شيئا زائدا أو طارئا، كما أنها ما كان ينبغي أن تكون حلا أخيرا، أو خيارا في أسفل القائمة.
المهم لطالما بلغنا ما بلغنا من سوء خاتمة بهذا المنقلب، دعوني أقول لكم: ترجلوا الآن أيها الرجال قليلا.
دعونا نجرب شيئا من حكم النساء “النساء”، كما هو عهدنا المسطور في كتب الزمان الأول.
و-دمتم لنواصل-