مقالات
قبل الحوار السوداني/ سوداني (٢)
علي عسكوري:
ذكرنا في المقال الأول أن القوى السياسية تحاورت عشرات المرات في ذات المواضيع حتى لم يبق في كراسة مخرجات حواراتها موضع شولة او همزة وصل لم تضعها. ذكرنا ايضا ان القضية ليست في الحوار بل في التزام القوى السياسية بمخرجات الحوار واتهمناها بانها قوى خؤونة لا تلتزم بالعهود والمواثيق التى توقعها، وقلنا ان ذلك هو المشكلة وهو الامر الذي يجب على القوى السياسية ايجاد حل له، فإن لم تستطع القوى السياسية الالتزام بالحد الادنى من المصداقية بين بعضها البعض فيما يتعلق بالقضايا الجوهرية للبلاد، لن تستقر بلادنا مطلقا. من نافلة القول، ان لم تغادر القوى السياسية حالة التربص ببعضها البعض لن يوجد امل في التعايش او مايسمى مجازا بالتبادل السلمى للسلطة خاصة وان هذه القوى لم تتبادل السلطة سلميا منذ الاستقلال! والحال كذلك، من اين لها وبدون تجربة سابقة ان تصبح فجأة قوى ديمقراطية تؤمن بتبادل السلطة سلميا وهي لم تعرف ذلك من قبل.
نتناول في هذا المقال قضية مهمة، وهى قضية تاريخ بلادنا الذى تتجنب القوى السياسية الحوار حوله، وتتخطاه عن قصد دون الاتفاق حوله.
يدرك كل دارس للتاريخ اننا مختلفين حول تاريخنا وفهمنا له كما توضح ذلك مناهج الدراسة في المدارس.
من المفارقات الغريبة ان تبدأ مناهج الدراسة للناشئة بي (دخول العرب السودان)! ويتم عن قصد تجاهل الارث الحضارى التالد لبلادنا وعدم تدريسه للاطفال! ترى هل كانت بلاد السودان خالية دون انسان No man’s land قبل دخول العرب اليها! ام كانت فيها حضارة تالدة اثرت ليس فقط على حياتنا حتى اليوم، بل ساهمت في مجري تاريخ الحضارة الانسانية وتفاعلت معها واثرتها واخذت منها واعطت لها.
المضحك في الامر ان السودانيين بمختلف توجهاتهم السياسية يتغنون بإرث تلك الحضارة ويتفاخرون به، لكنهم في ذات الوقت لا يدرسونها لاطفالهم في المدارس! يدرس الاطفال تاريخ الدولة الاموية، والعباسية، والعثمانية ودولة السلاجقة والدولة الايوبية وما الى ذلك من تاريخ الشعوب والامم الغابرة، ولكنهم لا يدرسون تاريخ بلادهم القديم. اليس من الصادم ان يعرف الناشئة، الحكم بن مروان، وهارون الرشيد والبرامكة، وسيف الدولة الحمدانى، وصلاح الدين الايوبي، وجنكيز خان، وهلاكو، وتيمور لنك والظاهر بيبرس وكافور الاخشيدى، ومحمد على باشا، لكنهم لا يعرفون شيئا عن الملك بعانخى وتهراقا والملكة اماريناس وغيرها من ملكات الدويلات النونية القديمة. والله لا اعرف امة تتنكر لتاريخها كما نفعل!
للاسف، يدرس الاطفال تاريخ المهدية غير المتفق عليه ولكنهم لا يدرسون تاريخ بعانخى وتهارقا وغيرهم من التاريخ المتفق عليه. يدرس الطلاب تاريخ المهدية كتاريخ بطولى وكذا، لكنهم عندما يستمعون الى حكاوى (حبوباتهم) في المنازل يستمعون الى قصص تخالف ما قاله لهم الاساتذة في الفصل وهكذا يحدث الاضطراب الذهنى عند الاطفال منذ الصغر حول حقيقة التاريخ وصدقية روايته.
من المفارقات في تاريخنا وفهمنا لاحداثه وتفسيرها كرمزيات مهمة، لم يتوقف السودانيون – مثلا- الى اليوم ليسألوا: لماذا ترك الانجليز منزل الخليفة عبد الله التعايشي قائما ولم يزيلوه، وقد كان بوسعهم فعل ذلك، لكنهم تركوه كما هو؟
من يعرف الانجليز يعرف انهم تعمدوا ذلك، والرسالة الضمنية هى التى ارادوا ارسالها هي: ايها السودانيين هذا كان مستواكم الحضاري وهذا بيت رئيسكم وقائدكم، تركناه لكى تعلموا الفرق ولكى تعملوا طالما كان هذا بيت رئيسكم فكيف تكون باقي بلادكم..! هذا كان سكن رئيسكم فعن ماذا تتحدثون!!
بنى اسلافنا القصور الضخمة في المصورات و الشمالية من الجرانيت وغيره قبل الميلاد وما تزال هندستها تثير اهتمام المهندسيين المعماريين.
كذلك بنى الاتراك قصر غردون حوالى ١٨٢٣، اى قبل حوالى ٦٢ سنة من انتصار المهدية وشاهده جميع قيادات الانصار بما فيهم المهدى نفسه والخليفة، ولكن خيال المهدية ظل قاصرا على بنيان الحجر والطين، فالدولة التى بناها الخليفة من واقع خياله المحدود كانت دولة ارتدادية انحطت ببلادنا الى عصور ما قبل التاريخ! وكما نعلم فإن هندسة البناء بالحجر والطين كانت اول ما طوره الانسان بعد خروجه من حياة الكهوف الى العيش في الاراضي المنبسطة والبرارى بعد اكتشاف الزراعة وانتاج المحاصيل! وللقارىء ان يتذكر ان الانسان استطاع ان يطور هندسة البناء منذ قرون سحيقة فبني حدائق بابل المعلقة في القرن السادس قبل الميلاد وبنى الاهرامات وغيرها من مدن العالم القديم. لكن للاسف، وفي نهاية القرن التاسع عشر كان بعض من حكموا بلادنا مايزال خيالهم قاصرا على مبانى الحجر والطين ولله في خلقه شئون!
هل اخطأ الانجليز يا ترى عندما تركوا بيت الخليفة قائما ليذكرونا بحالنا وواقعنا!!
الغريبة ان السودانيين ما زالوا متمسكيين بذلك البيت كبرهان مستمر لخبث البريطانيين وامضاء لرسالتهم الاذدرائية! وكلما زرت بيت الخليفة انتابتي حالة من الانقباض و (خمة نفس) وانا اتخيل حال الموطنيين الذين عاشوا تحت حكمه، يالهم من بؤساء ذوى حظ تعيس، وحمدت الله اننى ولدت في اجيال اتت بعد ذلك بعقود! والحال كذلك لم يكن مستغربا ان تكون (منازل) المواطنيين في امدرمان ايام الخليفة كمعسكرات اللاجئين اقرب منها للسكن الحضري، تري من كان يجرؤ على بناء بيت افضل من بيت الخليفة(الرئيس)!
كل اجنبي يزور بيت الخليفة يمكنه ببساطة رسم صورة لاحوال بلادنا في نهاية القرن التاسع عشر حين كان العالم على وشك اختراع الطيران والتلفزيون، بينما كان المهندسان (ميرسدس وبنز) قد طورا السيارة الاولى في التاريخ بعد ان تمكن العقل البشري من تطوير ماكينة الاحتراق الداخلي! اى قدر من البؤس ذلك الذى ضرب بلادنا وانتكس بها للقرون الاولى، وهو ذات الامر الذى عاد الكرة منذ ١٩٨٩ وما زالت فصوله تترى حيث يتم تدمير الارث الحضارى لبلادنا بصورة ممنهجة، فما تقوم به المليشيا حاليا بدأه الخليفة عبد الله ثم قطعه الاستعمار الانجليزي، ثم أعادت الانقاذ احيائه ليأتى الجنجويد لاكماله. لا فرق عندى بين ما فعله الخليفة والانقاذ والمليشيا، فالجميع ينهلون من بركة الانحطاط الحضارى وعملوا ويعملوا للعودة ببلادنا الى عصور ما قبل التاريخ! لقرابة السبعين عاما فشلنا في بناء مدينة تواكب العصر، مالنا لا نرى عيوبنا وتخلفنا وقد كانت الفضلات تغطى شوارع عاصمتنا حتى سور القصر الرئاسي!
ترى اى حضارة واى مدنية نتحدث عنها!!
ان على كل المستنيرين قبل كل شىء وقف موجات الانحطاط الحضارى التى تاتينا من منطقة واحدة، ظلت ترمينا بجماعات تعيش خارج ركب الحضارة الانسانية وتتخذ من البربرية اسلوب حياة، ويجب ان نمضي الى ابعد درجة ممكنة في هذا الاتجاه اذ لا يمكن القبول بتكرار ما حدث مرتين في تاريخنا مرة ثالثة! من اراد ان يعيش في البربرية والعصر الحجرى له ذلك، دون ان يتسبب في تعطيل مسيرة من يرغبون في تطوير واقعهم وحياتهم مثل شعوب الارض. ولذلك من الضرورى وقف الابتزاز الذى يمارس باسم (التهميش)! من تسبب في التهميش هم من يدعون انهم مهمشين لانهم اعاقوا النهضة نتيجة لما مارسوه ويمارسوه من عنف قضي على الاخضر واليابس واقعد بلادنا واهدر موارد ضخمة جدا!
ان دراسة التاريخ ليست امرا لتزجية الوقت والاستماع للقصص وكذا، فالتاريخ مكون اساسي للشخصية ومنه يستمد الفرد ذاتيته وكينونته ويعرف اصله وفصله وانتمائه. فبدون ادراكنا لتاريخنا نكون امة منبتة بلا ذاكرة ولا جذور.
هنالك بون شاسع في المفاهيم والنظرة للتاريخ وبناء الحضارة بين مكونات المجتمع السودانى، فهنالك من يسعون لبناء الحضارة وهنالك من يعمل على تدميرها، والفارق المفاهيمي بين المجموعات ضخم جدا بحيث لا يمكن رتقه، ومن الافضل لنا وقف الحروب وترك من يسعي للعيش في العصر الحجرى وبهائمية التتر ان يذهب لحاله فما عاد الوقت يسعفنا للحاق بركب الامم وما عاد الابتزاز باسم التهميش والحصول على الامتيازات نتيجة لحمل السلاح والعنف مقبولا!
هذه هى ام القضايا التى يجب نقاشها والاتفاق حولها قبل الحوار السودانى سوداني.
نواصل
هذه الأرض لنا