مقالاتمنوعات وفنون

قهاوي الدامر واحدة من موروثات الزمن الجميل

صوت القلم

د.معاوية عبيد:

مهما تقدم الإنسان وزاد من تطور مدنه التي يعيش فيها، إلا أنه لا يزال يشعر بالحنين إلى الماضي وبساطته والعودة إلى أحضان الماضي بكل ما يحمله في طياته من جمال وعيشة رغدة مملوءة بالنشاط والحيوية والهدوء، وفي شتى بقاع العالم لا تزال ملامح العصور القديمة حاضرة في قرى ومواقع تراثية عدة، حافظ عليها الإنسان وتعامل معها كآثار يقصدها السائحون من شتى بقاع العالم، ووسط تلك المواقع حرص الإنسان أن يصنع لنفسه ثقباً في قلب الزمن، يلج من خلاله إلى الماضي الجميل، ويعيش أجمل لحظاته في الواقع وتلك المواقع التي تحكي ذكريات المدن و القري علي لسان مرتاديها من اهل الثقافةوالسياسة و الرياضة و الفن و الأدب و الشعر وظرفاء المجتمع .
( القهاوى ) واحدة من هذه المواقع ، وهي تمثل العمود الفقري للمورثات القديمة في الحياة ، ورحماُ انجب عشرات الحركات الأدبية، واكتلمت مواهب عدد كبير من الشباب الذي أثرى المكتبة العربية بعشرات المؤلفات الإبداعية، لدرجة أن تصنيف بعض الأدباء ومدارسهم جاء وفقًا للمقهى الذي يجلسون فيه ، بل كان المقهى أنيس المبدع وصديقه المقرب ، فنجد أن المقهي كان من الأماكن المفضلة لنجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي، والكاتب الكبير عباس محمود العقاد، و الشاعر السوري محمد الماغوط، والشاعر نزار قباني ، و الشاعر بدر شاكر السياب، كلهم كانوا من رواد هذه المقاهى ، التي كانت لها مكانة خاصة في قلوبهم .
إن القهاوي في السودان لم تكن بعيدة من هذا الحراك الثقافي و السياسي و الرياضي و الاجتماعي الذي اثري مجالسها ، فنجد ان المقاهي في الخرطوم لم تكن فقط متكئاً لشرب الشاي والقهوة، بل كانت مجالس للسياسيين والفنانين والأدباء، وتعتبر قهوة أبو زيد بالخرطوم التي أسسها علي أبوزيد في العام 1905م، من أقدم المقاهي في الخرطوم ، وفي ثلاثينيات القرن الماضي، كانت هناك (قهوة الزيبق ) من القهاوي المشهورة في الخرطوم ، ونجد (قهوة جورج مشرقي) في ام درمان كانت مجالاً رحباً للشعراء والفنانين والعازفين والمسرحيين منذ أربعينيات القرن الماضي لقربها من (البوستة)، حيث بدأت الإذاعة السودانية بثها ، وهنالك أيضاً العديد من القهاوى في أم درمان والخرطوم و بحري كانت ملتقى يجتمع فيه الأصدقاء والشعراء والفنانون والمثقفون والوزراء ، وكانت تفتح أبوابها من السادسة صباحاً حتى آواخر الليل ، ولقرب بعضها من نادي الخريجين فقد كانت تجمع كل ألوان الطيف السياسي، وتكونت بها كل الأحزاب السياسية، وكانت تنتقل إليها المساجلات والمناقشات والمناظرات السياسية .
الدامر واحدة من العواصم الثقافية وهي منبع للادباء و الشعراء والسياسين وبحكم نشأتها الدينية و موقعها الجغرافي في ارض البطانة ، وبها أكبر سواق للمواشي ، وهي حاضرة الأقاليم الشمالي انذاك ، كانت القهاوى فيها مرتعاُ للادباء و الفنانين و الشعراء و اهل السياسة و الرياضة .
دكان الترزي عثمان الكاشف اطال الله عمره ، كان واحداً من المعالم القديمة ويرتادها اهل الرياضة وبعض اهل الثقافة ، جلست مع عمنا الكاشف وهو رجل متواضع ذو نكتة حاضرة ونسبة لاقدميته في السوق جلست إليه و احتسيت معه فنجان القهوة وبدأنا نجتر ذكريات المدينة ، لم اشبع من سرده و حكاويه الشيقة و مداخلات بعض زائرية ، استأذنت بعد ان تحصلت علي معلومات قيمة.

أيضا كانت لي محطة أخري مع رجل بدأ حياته عامل في القهاوي من أجل إكمال مشواره التعليمي ولقربه مني و قربي منه ، والدي الشيخ عبيد أطال الله في عمره زود مقالي بروائع الكلم عن قهاوي المدينة و سوقها الذي ينضح فكرا و ثقافة بل كان شبيها بسوق عكاظ .
فنجد من أقدم القهاوي بمدينة الدامر قهوة محمد المصري و من الطرائف ان محمد هذا ( يعطيك كباية واحدة شاي ولايزيدك حتي اذا دفعت مال قارون لجودة صناعته للشاي) و المصري والد لاعب فريق الرابطة المرحوم إسماعيل المصري ، أيضا قهوة تقلاوي، قهوة عبد الله الشفيع ، قهوة احمد شلع وهذه يميل عليها الطابع السياسي ، وأيضا من طرائفها أن بعض مرتادي هذه القهوة اميين وهم يحضرون باكراً وتتم قراءة الجرائد لهم و لشدة ذكائهم يستوعبون ما تناولته هذه الجرائد ويذهبون الي مجالس اخري ويتناولون ماقرأ لهم بكل قوة واقتدار ، أيضا قهوة احمد زايد ، قهوة حمدون و هذه يميل عليها الطابع الرياضي ، ايضا نجد قهوة ود النقر ، قهوة ود القاش ، قهوة ود جد الناس ، قهوة احمد حاج مجذوب و قهوة ود ضحوية و هذه القهاوى كانت تُجلب إليها المياة من بئر ( عثمان بلال ) وهي اقدم بئر في السوق وبها أكثر من سبعة سقايين وهي لا تنضب قط .
ايضا كان للقهاوي دور في تنمية البني التحتية للمدينة ، ففي عهد المحافظ حسين محمد احمد شرفي محافظ مديرية نهر النيل و التي كانت حاضرتها الدامر ، كان يجوب هذه القهاوي و يحث مرتاديها للعمل من اجل تطوير المنطقة عبر الجهد الشعبي بالإضافة لجهد الحكومة ، فكان لرواد هذه القهاوي دوراً بارزاً في تطوير المدينة ، فانشأت دار الرياضة ومستشفي الدامر التعليمي و عدد من المدارس و غيرها من المباني التي كانت وجهاً مشرقا لحاضرة الإقليم الشمالي انذاك .
مايميز مدينة الدامر أن هنالك موارد أخر لا ينضب معينها غير القهاوي ، وقد زودت الحركة الثقافية و الرياضية والسياسية بعدد كبير من الرواد ، فنجد دكان الخليفة احمد عبد الله حسن ودكان زعيم الأنصار عوض حسن علي، مكتبة ابو طالب الثقافية، نادي الدامر الثقافي بجوار مباني البوستة والذي تأسس بالجهد الشعبي و كان يرتاده الموظفين وعامة الشعب ، أيضا نجد دكان الترزي عثمان الكاشف وهو يرتاده الرياضيين وبدأ منه اللاعب حامد بريمة مشواره الكروى والسر حامد بلالو و عدد كبير من نجوم الرياضة ، أيضا دكاكين الترزية احمد ولع و حسين عامر والهادي مجذوب ومجذوب الطيب وهو ترزي نسائي . ايضا من المحطات الثقافية كان سواق مواشي الدامر وهو اكبر سوق علي نطاق الوطن العربي خاصة الإبل وهذا السوق لديه شيوخ اشهرهم في ذاك الزمان ( حسين كرار ، خلف الله طاهر ابو حكيم ) و كان يرتاده كبار شعراء البطانة أمثال الطيب ود ضحوية وعباس نافع و عكير الدامر وطه الضرير وود عمارة ، ودكان الحلاق عوض الحاج ، والحلاق علي محمود ابيض ( ظاعوط ) وهذا الاخير كان مشهور بالنكتة وسرعة البديهة في الرد.
أيضا الناظر لهذه المواقع سواء كانت القهاوي أو المواقع التجارية التي اسهمت في وضع بصمات خالدات في حياة المدينة ورفد ساحتها السياسية و الفنية و الرياضية بعمالقة الأدب و الشعر و السياسة أمثال العلامة عبد الله الطيب ، الطيب محمد الطيب ، محمد المهدي المجذوب ، السر قدور ، حنان النيل ، قاسم ابوزيد ووالده الشاعر ابوزيد عبد الكريم ، الشاعر عبد المنعم قدور و المادحين قدور وقسم الله ود عوض و الفنان مجذوب اونسة ، وفناني الحقيبة أحمد الفحل وود بساطي ، والممثل عبد الرحمن الشبلي ، عثمان تور الجر ، ذو الفقار حسن عدلان .
مازالت القهاوى بمدينة الدامر تمثل روحاً للتاريخ ومعالم بارزة و منبعاً لكل ضروب الحياة الثقافية والسياسية والرياضية ، رغم افول نجم بعضها و بزوغ اخريات ، ورغم ظهور ستات الشاي و الجنبات، لكن يظل عبق مدينة الدامر القديم حاضراُ . نتمني من القائمين علي أمر التراث بالولاية إعادة ترميم ما اسقطه الدهر .

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق