بمجرد أن يكتمل العدد المعروف، يومياً كان بيننا ميثاق شرف متوارث من الذين سبقونا من (أولاد الحلة) في الميدان، حيث كنا نتجه إلى صناديق الاقتراع لنمارس استحقاقنا الديمقراطي في تقسيم (التيم) الموجود إلى فريقين، (كلاهما في الجنة طبعا ولن يذهب أحدهما إلى السعير).
القاعدة الثابتة والموروثة عندنا كانت (السهم رضاي) ولذلك كنا نمتثل للدخول في العملية الانتخابية بكل قبول وتصالح مع النفس في بداية كل تمرين ونحن تتراوح أعمار أغلبنا بين السابعة والعاشرة وهناك حالات تتم إضافتنا فيها لـ(شلة الكبار).
لم نكن نعرف حينها إلى أي قبيلة ننتسب أو إلى أي حزب أو تنظيم يتبع آباؤنا فقط كل ما نعرفه أن أي كبير من الحلة كان يمكنه التدخل لفض أي نزاع قد ينشب ويتطور (نتيجة احتجاج على هدف أو “فاول” أو لأي سبب مرحل) ومن حق هذا الكبير استخدام كل وسائل فض النزاعات – بخلاف الرصاص الحي والغاز المسيل للدموع طبعاً-.
الحوش المجاور للمسجد كان ملعبنا وكنا نسميه اصطلاحاً (حوش الجامع)، حوش الجامع كان ساحة معركتنا الرياضية التي يغلب عليها الطابع الديمقراطي والتراضي الوطني لقناعتنا الراسخة كما قلت بأن (السهم رضاي).
أجمل ما في تلك الأيام أن الخلافات كانت تحسم بطرق التصويت المختلفة، وكنا نجري انتخابات التقسيم إلى فريقين بعدة طرق منها أن يتم اختيار شخصين متكافئين -في الغالب- على اعتبار أنهما زعيما الفريقين المتنافسين، ويقف البقية صفاً واحداً ليختار أحد الزعيمين في كل مرة لاعباً إلى فريقه وكانت هذه العملية شفافة لدرجة الإحراج، فقد يُترك ثلاثة أو أربعة في آخر الصف دون أن يختارهم أحد، ولكن يتم توزيعهم تلقائياً بين الفريقين، ولتفادي هذا الحرج، كنا نلجأ للاقتراع السري وكان القرار الحاسم لأي هرجلة مقولة أحدنا : “تعال نتسامى” ونتسامى هذه كانت تعني في تلك الأيام أن يبتعد شخصان ويختار كل منهما سهما (رمز انتخابي) ويعودان لقائدي الفريقين ليختارا من السهمين، ولا يمكن التراجع عن الاختيار لأي سبب من الأسباب إذا وقع من نصيبك الشخص الذي لا تريده، حتى لو أدى ذلك لتعليق اللعب في ذلك اليوم وهذه من الكبائر ومن الحالات نادرة الحدوث.
كان الجميع يقبل بهذه العملية الانتخابية النزيهة والشفافة مهما كانت نتائجها والأجواء التي جرت فيها.
والغريب أن (سيد الكورة) نفسه لا يتدخل في هذه العملية الانتخابية على الرغم من صلاحياته الواسعة في منع أحدهم من اللعب بزعم أن (كراعو كبيرة) وقد يكون السبب الحقيقي هو الغيرة لأن فلاناً هذا لعّاب.
الآن وبعد مرور عشرات الأعوام اكتشفت أن الوصفة السحرية لحسم كل الخلافات وكلمة المرور والرمز السري الذي كنا نحفظه جميعاً هي كلمة (نتسامى)، حيث كانت الحاسمة (أرح نتسامى، تعال نتسامى، أمشو اتسامو).
لم أكن أفهم -وقتها- أن كلمة (نتسامى) البسيطة هذه هي نفسها الكلمة التي يرددها الساسة والقادة الآن ولا أحد يستجيب لهم، لم أكن أعرف أننا كنا في ذلك الوقت (نتسامى) ونتعالى ونترفع عن الصغائر والخلافات ونعود متفقين بعد ابتعادنا خطوات نتفق فيها على اختيار (سهم) أو رمز كل واحد فينا ويمكن أن يكون الرمز كلمة أو حجراً أو حديدة أو أي شيء.
وليس المهم شكل السهم أو الرمز الانتخابي ولكن السر كما قلت في التسامي.
لاحظت مؤخراً خلال وجودي في (الدامر – الشاعديناب) أن تقاليد وأعراف (حوش الجامع) لم تتبدل رغم أن الميدان تبدل إلى (حوش سلام) ورغم مرور عشرات السنين ومختلف الأنظمة السياسية.
أيها الناس: (تعالوا نتسامى).