مقالات

معالم من تاريخ السودان السياسي (1821 – 2021) (4)

د. عبدالكريم الهاشمي:

1
يقول “محمد الغزالي” العيب في دراسة التاريخ في اننا أحيانا نـطالع صفحاته لنقرأ أنباء الانتصارات و الهزائم ولـكن التاريخ شئ آخر هو أن تعرف ما المقدمات التي انتظمت حتى انتهت بالنصر أو الهزيمة ويقول “ألفرد ويتني جريسولد: إن الذين لا يعتبرون من أخطاء الماضي مكتوب عليهم تكرارها مرة أخرى”. إستطرادا لما سبق من فذلكة تاريخية لمسيرة تاريخ السودان السياسي نواصل ما إنقطع من احداث كانت لها إنعكاسات كبيرة على الحاضر وسينسحب تأثيرها على المستقبل.
تعهدت دولتي الحكم الثنائي كما ذكر آنفا في الإتفاقية التي تم توقيعها في 12 فبراير من العام 1953م على منح السودان الحكم الذاتي وحق تقرير المصير وتصفية الإدارة الثنائية في السودان في غضون ثلاث سنوات وبناء على هذه الاتفاقية إجريت أول انتخابات برلمانية في نوفمبر عام 1953م وعقب الإنتخابات تم انتخاب السيد اسماعيل الازهري رئيسا للوزراء في جلسة البرلمان التي انعقدت في يوم 6 يناير 1954حيث نال 56 صوتا بينما نال منافسه محمد احمد المحجوب 37 صوتا ليشكل اول حكومة وطنية في يوم 9 يناير 1954م من 9 وزراء وذلك لأداء مهام محددة وردت في الاتفاقية التي وقعت بين قطبي الحكم الثنائي في فبراير 1953. من التحديات التي أثقلت كاهل حكومة السيد اسماعيل الأزهري التي تسلمت مقاليد الحكم إبان فترة الحكم الذاتي قضية إعداد الدستور ومشكلة جنوب السودان وقضايا التنمية إلى جانب الصراعات الأيديولوجية بين الأحزاب اليمينية واليسارية وبين الديمقراطيين والشموليين. شكل رئيس الوزراء إسماعيل الازهري حكومة الفترة الإنتقالية من تحالف لجبهة وطنية عريضة وذلك بغرض التوصل لوضع ميثاق وطني يصبح إطارا لمستقبل السودان. من اكبر الإنجازات السياسية لحكومة الفترة الإنتقالية هو إعلان استقلال السودان حيث اعلن السيد إسماعيل الأزهري الإستقلال من داخل البرلمان في 19 ديسمبر 1955م حيث فاجأ هذا الإعلان الحاكم الإنكليزي وطائفة الختمية وحزب الأمة بل الشعب السوداني. من المهام الكبيرة التي إضطلعت بها حكومة الفترة الانتقالية تنفيذ برنامج السودنة الذي تم عبره إحلال السودانيين محل البريطانيين في الوظائف العسكرية والمدنية كذلك من المهام التي انجزتها الحكومة جلاء القوات الاجنبية من السودان.
2
بعد ان إكتملت فترة الحكم الذاتي والتي دامت لعامين بدأ العهد الديمقراطي الوطني وذلك بتشكيل اول حكومة وطنية بعد إعلان الإستقلال وكان ذلك في فبراير 1956م
تولى فيها الزعيم إسماعيل الازهري رئاسة الوزراء وعبد الفتاح محمد المغربي رئيسا لمجلس السيادة حيث لم تستمر الحكومة الوطنية الأولى لأكثر من خمسة أشهر فقط حيث دب فيها الخلاف والشقاق بسبب نقل الاحزاب خلافاتها ألى أروقة الحكومة مما اعاق اداءها اما السبب الرئيسي لسقوطها هو بوادر الإنشقاق التي ظهرت في حزب الاغلبية الحزب الاتحادي الديمقراطي إثر الخلاف الذي حدث بين الزعيم إسماعيل الازهري والسيد علي الميرغني وبسبب هذا الخلاف كون السيد علي الميرغني حزبا جديدا بإسم “حزب الشعب الديمقراطي” ثم اعلن السيدان علي الميرغني وعبد الرحمن المهدي في بيان مشترك قيام تحالف بين طائفتي الختمية والأنصار وهو اللقاء الذي عرف لاحقا “بلقاء السيدين” والذي سقطت بسببه أول حكومة رسمية في البلاد حيث سحبت الثقة منها في يوليو 1956م بعد خمسة اشهر من إنتخابها وذلك بأغلبية ستين صوتا مقابل واحد وثلاثين صوتا. بعد إسقاط حكومة الإئتلاف التي يترأسها اسماعيل الازهري بسحب الثقة منها اجريت إنتخابات أخرى في العام 1958م لإختيار رئيس وزراء جديد حيث لم يحرز فيها أي حزب الاغلبية المطلقة التي تمكنه من تشكيل حكومة منفردة فشكلت حكومة إئتلافية من حزب الأمة وحزب الشعب الديمقراطي “حكومة السيدين” تولى فيها الأميرلاي عبد الله خليل الأمين العام لحزب الأمة رئاسة الوزراء وإسماعيل الأزهري رئيسا لمجلس السيادة إستمرت هذه الحكومة حتى إنقلاب الفريق إبراهيم عبود في نوفمبر 1958م. إن إجراء سحب الثقة من حكومة الزعيم الأزهري الذي مارسه البرلمان مثل ضربة موجعة له ولحزبه الأمر الذي دفعه للسعي لترميم التصدعات التي أحدثها الخلاف بينه وبين السيد علي الميرغني الامر الذي تسببت في إسقاط حكومته حيث نجح في ذلك بحدوث تقارب سياسي من جديد بينه والسيد علي الميرغني الامر الذي أثار قلق حزب الأمة الذي يخشى من استعادة نفوذهما مرة أخرى في السيطرة على الحكومة.
3
عاشت البلاد إبان حكومة السيدين التي يترأسها السيد عبد الله خليل اوضاعا مذرية حيث فشلت الأحزاب السودانية وقتذاك في الاتفاق على أية صيغة توافقية بينها حول نظام الحكم والدستور كما اخفقت في تقديم حل لمشكلة جنوب السودان بالإضافة لتردي الأوضاع الاقتصادية مما أدى لتصاعد وتزايد السخط الجماهيري ضد الحكومة. عكس الاستاذ الرشيد الطاهر بكر المراقب العام لحركة الإخوان المسلمين وقتئذ الاوضاع التي كانت تعيشها البلاد في مقال نشر في صحيفة الإخوان المسلمين جاء تحت عنوان “على حافة الهاوية” نشر بتاريخ 17 نوفمبر 1958 جاء فيه “عندما تختفي محاسن النظام الديمقراطي ولا تظهر غير معايبه يندفع المحكومون في كل طريق بحثاً عن نظام آخر حدث هذا في مصر وحدث في العراق وحدث في الباكستان وسيحدث في كل بلد تسيء فهم النظام الديمقراطي وتسيء ممارسته”. كانت هنالك كثير من الشواهد التي تشير إلى حدوث إنقلاب بسبب الاوضاع الامنية والسياسية والإقتصادية المتأزمة.
4
في صبيحة 17 نوفمبر 1958 تحركت عدة فرق مسلحة من الجيش لتمسك بزمام السلطة حيث تعددت الروايات حول الاحداث التي تمت في يوم 17نوفمبر 1958م إذ يرى البعض أنها كانت إنقلابا فيما يرى البعض الآخر أنها كانت عملية تسليم السلطة للجيش قام بها رئيس الوزراء عبد الله خليل وهذا هو الرأي الراسخ في اذهان كثير من السودانيين وورد في كثير من الكتابات التي تناولت الحدث وبالرغم من كثافة الروايات التي يعضد بعضها بعضا تارة وينفي بعضها بعضا تارة أخرى إلا أن الاميرلاي عبد الله خليل نفى تماما ان يكون له دور في تسليم السلطة للجيش حيث جاء ذلك في محضر
استجوابه الذي تم في مارس 1965م حيث اكد انه لم يتآمر او يشارك الجيش في الانقلاب قائلا “هناك تهمة سمعتها من بعض أعضاء حزب الأمة أنهم قالوا لولا مساعدتي أنا للعساكر لما تمكنوا من عمل انقلاب وهذا ليس صحيحاً بالطبع فلا يمكن أساعد ناس جايين يعزلونني” واسترسل قائلا “رأيي في الانقلاب أنه تعدٍ من الجيش على البلد وأنا ما راضي عليه ولم يحدث أن السيد عبد الرحمن أو السيد الصديق وجها لي لوماً باعتباري ساعدت الجيش ولم تكن لهما شبهة” ويستمر في إفاداته عن الإنقلاب قائلا “رأيي في الانقلاب أنه تعدٍ من الجيش على البلد وأنا ما راضي عليه ولم يحدث أن السيد عبد الرحمن أو السيد الصديق وجها لي لوماً باعتباري ساعدت الجيش ولم تكن لهما شبهة في ذلك”. على صعيد آخر فإن الفريق إبراهيم عبود أكد الرواية التي ذهبة ألى مطالبة الاميرلاي عبد الله خليل للجيش لإستلام السلطة حيث وردت في إفاداته أثناء استجوابه الذي تم في يناير 1965 حيث قال “كنت في سنة 1958 القائد العام للجيش ومهمة الجيش معروفة وهى الحفاظ على الأمن وكنت أتلقى تعليماتي من رئيس الوزراء ووزير الدفاع السيد عبد الله خليل وقبل الانقلاب بنحو شهرين جاءني عبد الله خليل في المكتب وقال لي “ح يكون في جلسة في منزل السيد الصديق عبد الرحمن المهدي بأم درمان ودعاني لحضورها فأخذت معي أحمد عبد الوهاب ووجدنا هناك السيد الصديق وعبد الله خليل تطرق الكلام إلى الموقف السياسي وشرحه السيد الصديق قايلا إن البلد غير مستقرة وإذا عمل وزير الدفاع مع الجيش فإن هذا يساعد على الاستقرار فانفضت الجلسة على لا شيء ولم يحدث اتفاق أو اجتماع بعد ذلك والأحوال مشت عادية. استرسل الفريق عبود في الحديث “قبل انعقاد البرلمان بنحو عشرة أيام جاءني عبد الله خليل وقال لي الحالة السياسية سيئة جداً ومتطورة ويمكن أن تترتب عليها أخطار جسيمة ولا منقذ لهذا الوضع غير أن الجيش يستولي على زمام الأمر ونقلت حديث عبد الله خليل إلى ضباط الرئاسة أحمد عبد الوهاب وحسن بشير وآخرين ومرة ثانية جاءني عبد الله خليل فأخبرته بأن الضباط يدرسون الموقف فقال لي “ضروري إنقاذ البلد من هذا الوضع” ويواصل الفريق عبود قائلا “ثم أرسل لي عبد الله خليل زين العابدين صالح ليكرر لي نفس الكلام والضباط وقتها كانوا يدرسون تنفيذ الخطة “الانقلاب” ويقول الفريق عبود “قبل التنفيذ بثلاثة أيام جاءني عبد الله خليل في الرئاسة ليطمئن على الموقف فقلت له كل حاجة تقريباً انتهت وستتم قبل انعقاد البرلمان فقال لي عبد الله خليل “ربنا يوفقكم” ويقول الفريق عبود سألت عبد الله خليل إن كان هذا العمل مقبولا فقال لي إن كل العقلاء والسيدين يؤيدون هذه الحركة. اكد الصادق المهدي رواية الفريق إبراهيم عبود حيث أشار إلى أن عبد الله خليل كان يريد التخلص من الخلافات الحزبية السائدة آنذاك ويعتقد أن أقصر طريق لذلك هو تسليم السلطة للقوات المُسلحة وأشار إلى أن والده الصديق عبد الرحمن المهدي كان ضد هذا التسليم لكن أيده جده عبد الرحمن المهدي بحجة أن هناك بطء في الاتفاق على الدستور حيث أقنع عبد الله خليل الإمام عبد الرحمن بأن أقرب طريق لكتابة الدستور هو تسليم السلطة للقيادة العسكرية لتحكم فترة انتقالية قصيرة تكتب فيها الدستور وتعيد الحياة السياسية مرة أُخرى.
الجدير بالذكر ان إنقلاب الفريق إبراهيم عبود لم يكن أول محاولة انقلابية يقودها الجيش للإستيلاء على السلطة فقد سبقته محاولة فاشلة قام بها البكباشي عبدالرحمن كبيدة في يونيو عام 1957م ضد حكومة عبدالله خليل بدافع حسم الارتباك الذي كان يسيطر على المشهد السياسي وعلى الحكم سجن على إثرها كبيدة ثم أطلق سراحه بعد إنقلاب نوفمبر ليشارك في محاولة أخرى. جرت محاولة انقلابية ثانية ضد حكومة عبود قادتها مجموعة من الضباط اشهرهم أحمد عبد الوهاب وعبد الرحيم شنان ومحيي الدين أحمد عبد الله حيث تعاملت معهم الحكومة بشئ من اللطف بل تم استوعبتهم في نظام الحكم بدلا من اقتيادهم إلى المشانق أو الزج بهم في السجون الأمر الذي أغرى مجموعة من الضباط والمدنيين للقيام بمحاولة إنقلابية أخرى قادها المقدم علي حامد ويعقوب اسماعيل كبيدة في عام 1959م وفي هذه المرة تعامل نظام عبود بالحديد والنار مع الإنقلابيين حيث اعدم خمسة من قادته هم يعقوب اسماعيل كبيدة وعلي حامد وعبدالبديع علي كرار والصادق محمد الحسن وعبدالحميد عبدالماجد وزج بالآخرين في غياهب السجون من بينهم الرشيد الطاهر بكر المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين وشقيقه اليوزباشي عبدالله الطاهر بكر والصاغ عبدالرحمن إسماعيل كبيدة الشقيق الأصغر ليعقوب كبيدة.
5
بعد نجاح الانقلاب العسكري الذي قاده الفريق ابراهيم عبود بارك السيدان عبد الرحمن المهدي وعلى الميرغني الانقلاب فور وقوعه ومن ثم تم تشكيل حكومة عسكرية برئاسة عبود من ثمانية عسكريين وخمسة مدنيين لإدارة شؤون البلاد على ان تعمل على تثبيت اركان الحكم ومعالجة القضايا الاقتصادية. اصدرت حكومة الفريق إبراهيم عبود عدد من القرارات من بينها تعطيل العمل بالدستور وفرض حالة الطوارئ وحل البرلمان وإلغاء الأحزاب ومنع التجمعات والمواكب والتظاهرات وإغلاق جميع الصحف والعمل على إنهاء التمرد في جنوب السودان وطرد القساوسة والمبشرين لتدخلاتهم السافرة في الشؤون السياسية كما اعلنت الإهتمام بنشر الدين الاسلامي وجعلت يوم الجمعة عطلة رسمية في البلاد.
شهدت سنوات حكم الفريق إبراهيم عبود التي إستمرت في الفترة ما بين” 1958-1964م” كثير من النجاحات كما إلتصقت بها كثي من الإخفاقات وهذا ما سيتناوله المقال القادم.

نواصل

Krimhashimi5@gmail.com
0912677147

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق