أخبار وتقارير
تأملات الركن الخامس
محمد عبدالعزيز:
يوم التروية هو اليوم الذي تروى فيه إبراهيم عليه السلام في الأمر الذي رآه ليدرك حقيقته، ويوم عرفة هو يوم عرف حقيقة ما يؤمر به وايقن وسلم، ولكن “أهل العرفان” يفتون بحالا أخر، فقد قيل ” للجنيد ” شيخ القوم لماذا سمي يوم (التروية) بذلك؟ وهو اليوم الذي يسبق الوقوف بعرفة ..هل لأن الناس يأخذون الماء والزاد لرحلة الحج ؟، ضحك الشيخ وقال : هذا حج العوام …
أما أهل ” القصد ” فلأنهم عطشى فيحضرون لنبع ” منى” من أجل شراب الوصل والعرفان بعرفة …ومن شرب وجهل حاله يوم عرفة فهو لم يحج، لقد سقط عنه الفرض بالأداء لكنه غاب وقت الحضور …فقيل له هناك من يصوم يوم عرفة لمن لم يكن حاجاً فما حكم صيامه …؟
قال : إن صام وأفطر على (طعام) دون حال، فهو من العوام حتى يجد …وقام الشيخ من مجلسه وقال : حجت قلوب دون أن تكون حاضرة هناك …وغابت أجساد وهي واقفه بعرفة.
والحال الذي يكون عليه العبد هو الذي عليه مدار الأمر عند القوم –نسأل الله أن نكون منهم- لندرك أن الحج هو استمرار القصد في طلب الله مستنداً على شعارات وشعائر، شعارات ترمز لقوانين ومناسك ذات رمزية، فالإحرام إشارة إلى ترك شهوة المخلوقات، “لبيك اللهم لبيك..لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك” يعني الاستجابة والخضوع التام لله وهذا أساس القوام الروحي، والمناسك تدريبات لديها انعكاسات لطيفة في النفوس والفهوم، فالإحرام التزام وعودة لفطرة التكوين الأولى حيث خلقنا الله من صلب آدم عليه السلام وتذكيراً بالموت والآخرة، ألا تراه يلبس ما يشبه الكفن متجرداً عن زينة الدنيا، متخففاً من كل لباس عدا إزار ورداء يلف بهما جسده، ويستر بهما عورته، لا فرق في ذلك بين الغني والفقير، والملك والمملوك، والصغير والكبير. وإذا كان هذا التجرد من الدنيا وزينتها بوابة الآخرة، فالحاج كذلك يتذكر الآخرة وجمعها، حين يجتمع الناس على صعيد عرفات، والطواف محاولة انسجام مع الخلق (حركة الذرة والمجموعة والمجرة)، ورمي الجمرات رفضاً للباطل والطغيان قلبياً مع الممارسة العملية، وعرفات العودة بالزمان والمكان لأول لقاء للإنسان على الأرض، حيث بدأ استخلاف بني آدم على الأرض، وفرض الله عليهم الفرائض، إلا أن الركن الخامس ليس فرضاً بل أمراً مستحقاً “وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا” هو إذاً استحقاق لله على الناس.
الحج تهذيب للنفس وتعويد على احتمال الشدائد وأن الضيق يعقبه الفرج، ألا ترى الحجاج وهم يسعون بين الصفا والمروة يتذكرون ما مر بأم إسماعيل من ضيق وشدة وما أعقبه من فرج وفضل ورحمة. بل ألا ترى الحاج يبصر -أحياناً- شدة الزحام في المطاف أو المسعى أو رمي الجمرات، فيضيق صدره، وربما ظن أنه غير مستطيع أداء هذا النسك، ثم لا يلبث إلا قليلاً…وإذا بالضيق يخف شيئاً فشيئاً، والشدة تذهب رويداً رويداً، وبالجموع المخيفة تنفل، وبالرهبة تخف حتى يؤدي المرء ما كان متهيباً من أدائه من قبل، ولربما أضمر المرء حين الشدة أنه لن يحج بعد العام، فلما كان الفرج واليسر زال ذاك الهم، وتبدل العهد والوعد، وهكذا تنتهي الشدائد وتفرج الكربات، لا في مشاعر الحج وحدها، بل وفي كل مكان وزمان.
والمتأمل بعين العرفان يجد لكل منسك وحركة مقصداً وذوقاً، فالحج ليس حركة الجسد بل حركة الروح والوجدان، وهو “نوع من السلوك، ولون من ألوان التدريب العملي على مجاهدة النفس من أجل الوصول إلى المثل الأعلى، والاندماج في حياة روحية خالصة، تمتلئ فيها القلوب بحب الله، وتنطلق الحناجر هاتفة بذكره مُثنية عليه”.
ذكر صاحب اللمع بعض آداب الصوفية في الحج، منها “أنهم إذا قالوا: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك: أن لا يجيبوا بعد ذلك دواعي النفس والشيطان والهوى بعدما أجابوا الحق بالتلبية وأقروا أن لا شريك له في ملكه، فإذا نظروا إلى البيت بأعين رؤوسهم نظروا بأعين قلوبهم إلى من دعاهم إلى البيت، فإذا طافوا حول البيت بأبدانهم فمن آدابهم أن يذكروا قول الله عز وجل: ﴿ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ﴾، فكأنهم ينظرون إلى طوافهم، فإذا صلوا خلف المقام يعلمون أنه مقام عبد قد وفى لله تعالى بعهده، فندب الله الأولين والآخرين إلى متابعة قدمه…”.
وقد جاء رجل إلى الجنيد، فقال له الجنيد؟ من أين جئت؟ فقال: كنت في الحج. قال: هل حججت؟ قال: نعم. قال: هل رحلت عن جميع المعاصي منذ خرجت في البداية من بيتك ورحلت عن وطنك؟ فقال: كلا. قال: لم ترحل. ثم قال: حين خرجت من البيت وأقمت كل ليلة بمنزل، هل قطعت في هذا المقام مقاماً من مقامات طريق الحق؟ فقال: كلا. قال:لم تقطع منزلاً. ثم قال: حينما أحرمت في الميقات، هل تجردت من صفات البشرية كما تجردت من ثيابك؟ فقال:كلا. قال: إذن لم تحرم. ثم قال: حين وقفت بعرفات، هل لاح الوقت في كشف المشاهدة؟ فقال: كلا.قال: إذن لم تقف بعرفات…”
وذاك حال لا يرقى له الكثيرون، إلا أن الثابت أن الحج يبدأ بالطواف وينتهي به وهو ما يمثل إعلان بالانسجام مع حركة الكون، وتجديداً للعهد، وعودة من دون الذنوب تماثل نزول آدم للأرض بتوبته، وفي الحج تعزيزاً للاجتماع والتعاون للمسلمين، فإنه وإن كانوا مفترقين مختلفين، فإن اجتماعهم في الحج وتوحدهم في المشاعر مؤشر إلى إمكانية اجتماعهم وتوحدهم في غيره.