هشام عباس زكريا:
وجدته في أحد مقاهي المدينة القديمة يتناول فنجاناً من القهوة وهو بذات ملامحه الصارمة وجديته، والذين يجلسون على ما تبقى من المقاهي هم الذين يحاولون عبثاً استدعاء تلكم اللحظات الحالمة التي غابت وسط جلسات الشاي في الشوارع العامة، فتشعر وهم يرتشفون هذا الفنجان كأنهم في جلسة افتراضية تنقلهم للماضي، فلا حديث بينهم ولا نكات ولا تعليقات، فهم في اجتماعهم هذا كأنما ينظمون جلسات احتجاجية ضد (ستات الشاي) وتلكم المقاعد المبعثرة على قارعة الطريق التي أفرزت ثقافة جديدة وسلوكاً جديدا ً،لا مجال الآن لمحاكمته فكل جديد تجد له المعارض والمؤيد.
* وجدت أستاذي هناك في وسط المقهى فدعاني لمشاركته فنجانه اليومي وسألته عن سر عزوفه عن أن يكون ناظراً لمدرسة أو مديراً لإدارة تربوية .. فهو قديم عركته السنوات وصال وجال معنا أيام كان مدرس (ابتدائي) والذي بفعل فاعل صار مدرس (أساس) بعد فقال لي إنه أقسم ألا يتولى أيّ إدارة مدرسة ولن يكون ناظراً حتى يتسلم خطاب التقاعد للمعاش العام القادم.
* قال أستاذي إن تلميذاً صغيراً في الصف الأول أساس كان السبب وراء هذا التحول فقد شاهدني(والقول لأستاذي القديم) عندما كنت مديراً للمدرسة وأنا أطوف الفصول بكراسة أدون فيها اسهامات أولياء الطلاب وأسأل عن (قروش) الشهر وأحدد تاريخاً بأنه آخر يوم للسداد وهكذا،…… وهذا لزوم الكهرباء والمياه والنظافة والصيانة وغير ذلك من أسباب تهيئة البيئة للطلاب.
* في أحد أيام الجمعة كان التلميذ مع والده بالسوق وشاهدني أمر أمامهم وفرح لمشاهدتي ولمَّا كان صغيراً في السن وحديث الدخول للمدرسة نادى بصوت مرتفع وسط السوق .. يا أستاذ القروش … يا أستاذ القروش .. وذلك في براءة يحسد عليها ووسط ضحكات وسخرية الباعة من خضرجية وجزارين وبائعي ليمون الذين وجدوا ضالتهم وراحوا يتزايدون في التهكم.
* يواصل أستاذي هذه القصة الحزينة ويقول إن ولي الأمر أقبل عليّ معتذراً ومعنفاً أبنه الصغير وحاول أن يلطف الأجواء وسط مناخ السوق الساخن بهذا الموقف المحرج اضافة إلى إرتفاع الأسعار.
* يقول أستاذي إنه تقبل الأمر بروح عالية ولكن في اليوم التالي ذهب مباشرة باستقالته إلى إدارة التعليم طالباً أن تعين ناظراً آخر غيره.
* ومنذ ذلكم التاريخ يقول أستاذي إنه ارتاح من عناء جمع (القروش) وبذلك فقدت المدرسة إدارياً ماهراً كان يمكن أن يحدث تحولاً كبيراً في مستقبل التعليم في المنطقة الصغيرة.
* لا أدري هل تناقش اللجان الاستشارية للتعليم التي انعقدت مؤخراً مثل هذه القصص التي كان يمكن أن تكون بديلاً عن الأوراق والأماني المكتوبة والإجتماع في القاعات وتكوين اللجان … وهل فعلاً ترتبط الصورة الذهنية لطلاب المدارس عن الناظر (بالقروش) وهل غابت شمس الأستاذ الذي يتجول في المدرسة (كالأسد) وهل غابت إمبراطورية الذي يحكم المدرسة من الوكيل وحتى الخفير مروراً بالطلاب وحتى أولياء الأمور!!!.
* إن استقالة أستاذي تفتح الباب عريضاً أمام نقاشات جادة حول الطريقة التي يدعم بها الجهد الشعبي المدارس في كل بلادي .. فلابد من استحداث طريقة يكون الطالب بعيداً منها خاصة فيما يتعلق (بالقروش) ولابدّ من استحداث آلية حكومية شعبية لتوفير الصيانة الدورية للمدارس وتأمين الكهرباء والمياه.
* وعلى مدرسي المدارس دور كبير في تعميق مفهوم العطاء .. فالعطاء لا يعني المال فقط ولكنه يعني تفعيل الجهد الطوعي وغرس الإنتماء لدى الطلاب نحو مدارسهم بحيث تصبح النظافة والصيانة والحفاظ على ممتلكات المدرسة من القيم التربوية والثقافية لدى التلميذ.
* نقول ذلك ونؤمن أن مدرسة (متسخة) لا تخرج مهندساً بارعاً وطبيباً يحترم بيئته ومعلماً يعرف قيمة النظافة، وبالطبع فإن طالب تطارده الرسوم الدراسية وإعلان آخر يوم لتاريخ السداد سينشأ جيلاً مادياً همه في المستقبل جمع المال بأي طريق.
* من هنا سادتي تبدأ مشاكل السودان ومن هنا أيضاً يبدأ الحل.
ودمتم
