مقالات

معالم من تاريخ السودان السياسي (1821 – 2021) (2)

د.عبد الكريم الهاشمي:

1
يقول الكاتب والصحفي محمد حسنين هيكل إن تاريخ كل أمة خط متصل وقد يصعد الخط او يهبط و قد يدور حول نفسه أو ينحني و لكنه لا ينقطع. مواصلة لما سبق من إجترار لتاريخ امة ضاربة بجذورها في التاريخ نواصل ما إنقطع من إسترسال لما جاء في المقال (1).
شهدت فترة حكم المهدية كثير من الصراعات الداخلية والمؤامرات الخارجية التي اضعفت تأييد الشعب لها واغرت الغزاة من محاولة احتلال السودان مرة أخرى حيث تجددت بالفعل محاولات إحتلال السودان في الفترة 1896-1899م عبر حملات الجيوش المصرية والبريطانية ويلاحظ في هذه المرة ان احد طرفي الثنائية قد تغير حيث حل البريطانيون مكان الاتراك وقد نجح الغزاة في إحتلال السودان في العام 1899م ليواجه السودان مرة أخرى عهدا استعماريا جديدا. شهدت حملات الجيش الغازي بقيادة هوراشيو هربرت كتشنر أو اللورد كتشنر إنتهاكات كبيرة أشهرها معرمة امدرمان “كرري” التي وقعت في يوم الجمعة 2 سبتمبر 1998م والتي راح ضحيتها عشرة الف قتيل وستة عشر الف جريح من الانصار مما يدل على بشاعة الغزاة وشجاعة الجندي السوداني حيث وصف “جورج ستيفنز” أحد المراسلين الحربيين المعركة قائلاً “إنه لأضخم وأعظم وأشجع جيش قاتل ضدنا أبداً ما هزمناهم ولكن أبدناهم” كما كتب المراسل الحربي الذي رافق الحملة “جي. دبليو. ستيفنس” “إن جاز لي اليوم أن أقول قواتنا قد بلغت الكمال فلا بد لي أن أعترف بأن المهدويون بروعتهم فقد فاقوا حد الكمال”. في يوم 24 نوفمبر 1899 قام العقيد السير ريجينالد وينجيت بمحاصرة الخليفة عبد الله التعايشي و 5000 من أتباعه الذين إنسحبوا منطقة “ام دبيكرات” حيث دارت يها المعركة التي قتل فيها الخليفة عبد الله التعايشي ومعه حوالي 1000 من رجاله ودارت رحى هذه المعركة بعد عام من معركة كرري. يقول”جي إي روجرز” الصحفي الفرنسي “ستظل الثورة المهدية أعظم مثال للبطولة والتفاني يمكن ان يوفره لنا التاريخ الإنساني”. ويصف ونستون تشرشل المراسل الصحفي قبل ان يصبح رئيس وزراء بريطانيا لاحقا جيوش المهدية في معركة كرري بأنهم”الشجعان الذين قاتلوا بشرف واستشهدوا بشرف” كما يقول تشرشل ايضا “شجاعة السود لا تقل اشتعالا عن رصاص بنادقهم”.
2
بعد ان احكم الجيش البريطاني المصري سيطرته على السودان تفرغ الشركاء لتقسيم الغنيمة حيث وقع الطرفين “مصر وبريطانيا” اتفاقية في 19 يناير من العام 1899م عرفت لاحقا بإتفاقية “الحكم الثنائي للسودان” تنظم العلاقة بينهم في كيفية إدارة السودان حيث ظلت مستمرة لأكثر من خمسين عاما منحت بموجبها بريطانيا الوصايا على السودان وبموجب هذه الإتفاقية تم رفع العلمين المصري والبريطاني جنبا إلى جنب وبات للسودان حاكم عام بيده السلطة العسكرية والمدنية يعينه خديوي مصر بترشيح من الحكومة البريطانية الامر الذي جعل جميع الحكام العامين للسودان في فترة الحكم الثنائي ان يكونوا كلهم من البريطانيين. لم تكن هناك شراكة متساوية بين بريطانيا ومصر في حكم السودان حيث سيطر البريطانيون منذ البداية على الوضع في السودان بالرغم من ان الإتفاقية نصت على أن تتحمل الحكومة المصرية كافة النفقات في السودان. إن تسمية تلك الحقبة بـالعهد الثنائي الأنجليزي المصري تسمية غير دقيقة إذ أن بريطانيا كانت هي الحاكم الفعلي للبلاد طوال فترة العهد الاستعماري الثاني للسودان. تم عقد عدة إتفاقيات خلال بعد الإحتلال لوضع حدود السودان حيث عقدت اتفاقيات لتعين الحدود بين السودان وارتريا واثيوبيا والكنغو الحرة ويوغندا وهي الحدود القائمة الى يومنا هذا. اهتم الغزاة البريطانيون بتطوير الزراعة والسكك الحديدية والتعليم وتشييد ميناء بورتسودان ومشروع الجزيرة. هذا قيض من فيض من تاريخ إحتلال دولتي الحكم الثنائي للسودان والذي استمرت لسبع وخمسون عاما (57 سنة).
3
بدأت الحركة الوطنية الحديثة في التكوين والتشكل إبان فترة الاحتلال الإنجليزي المصري للسودان(1899- 1956) حيث شهدت هذه الفترة إرساء أركان الدولة الحديثة في السودان وشكلت المشهد السياسي السوداني المعاصر إلى حد كبير. شهدت العشرين سنة الأولى من الإستعمار مقاومة مستمرة ضد الوجود الاجنبي من خلال قيام ثورات القبائل في كثير من أنحاء السودان بالإضافة للثورات ذات الطابع الديني من انصار المهدي والتي من أشهرها ثورة عبد القادر ودحبوبة عام 1908م وقد قاد السلطان علي دينار سلطان دارفور اكبر حركة تمرد في ذلك الوقت فقد عارض الإدارة الجديدة منذ البداية واستمر في مناهضته للمستعمر حتى استشهد في العام 1916م وبذلك أضحت دارفور خاضعة للحكم الثنائي البريطاني المصري بذات وضعها إبان الحكم التركي المصري وليس كما يتداول البغض انها إنضمت للسودان في العام 1916م إذ أن الصحيح انه تم إخضاعها لحكومة المحتل في العام 1916م حيث كان السلطان علي دينار يرغب في إستمرار ولاءه للسلطنة العثمانية. كذلك إندلعت ثورة الفقيه عبدالله محمد إدريس السحيني بدارفور في ديسمبر 1921وتعد آخر ثورة دينية لاتباع المهدي في مواجهة الاستعمار. إستمر نضال الحركة الوطنية في التصاعد والنمو حيث اخذ يتشكل رويدا رويدا وينتظم في اوعية نضالية مختلفة أقبل السودانيون متسارعين نحو مؤسسات التعليم الحديثة التي مكنتهم من تأسيس الجمعيات ذات الطابع الثقافي والأدبي وتنامت الروابط الوجدانية والشعور القومي بين هذه الجمعيات خاصة في المدن ومن أشهر هذه الجمعيات جمعية الاتحاد السوداني التي تأسست سنة 1918م كتنظيم سياسي وجمعية اللواء الأبيض 1922م التي تعتبر أهم حراك ثوري في هذه المرحلة. إنتهج المستعمر سياسة جديدة تقوم على قمع وترصد حركات المقاومة ولمواجهة تلك السياسة ابتكر السودانيون نوعاً آخر من المقاومة في ظل منع تكوين الاحزاب او الإنضمام إليها فكان الطريق الوحيد امام السودانيين هو العمل على تنظيم جماعات سرية وتوزيع المتشورات السياسية ونشر المقالات الصحفية في صحف القاهرة باسماء مستعارة وتفعيل العمل الثقافي والفكري والأدبي عبر دور الأندية والصحافة التي ظهرت فى تلك الفترة. في عام 1924 تم اغتيال “السير لي ستاك” حاكم عام السودان في القاهرة وكان هذا الحادث نقطة تحول في علاقة الثنائي الحاكم حيث مثل بداية الأزمة بين الحكومة المصرية والبريطانية إذ حملت بريطانيا مسؤلية الحادث إلى مصر وترتب على ذلك طرد الجيش المصري من السودان. تزامن مع مقتل السير لي استاك اندلاع أول ثورة مدنية على مستوى السودان والتي عرفت بإسم ثورة اللواء الأبيض بقيادة علي عبد اللطيف وآخرون حيث قابلها المستعمر بقمع وعنف شديدين فاستشهدت فيها ثلة من الضباط والجنود والمدنيين السودانيين وقمعت اول ثورة سودانية وقتل قادتها وأسر علي عبد اللطيف ثم تم نفيه في عام 1925م إلى مصر. تواصل الحراك الرافض للإحتلال فهبت المظاهرات والإضرابات فى المؤسسات التعليمية ومن أشهر هذه الإضرابات إضراب طلاب كلية غردون التذكارية سنة 1931 م كما شهدت الحركة النسوية فى هذه المرحلة حضوراً واعياً كان له إسهام فاعل فى مسيرة الحركة الوطنية. تأسس مؤتمر الخريجين سنة 1938م وكان وعاء نضاليا اجتمعت فيه كلمة الخريجين من الجامعات والمدارس والمعاهد الفنية المختلفة وبرزت من خلاله قيادات أذكت روح النضال الوطني الرافض لقوى الاستكبار الأجنبي حيث أثبت سجل النضال الوطني للخريجين النصيب الأعظم في استقلال السودان يذكر ان نادي الخريحين سبق في نشأته مؤتمر الخريجين حيث أنشئ النادي في العام 1918م.
4
تعاملت حكومة الاحتلال مع الجنوب بشكل منفصل عن الشمال حيث رأت بريطانيا أن مصالحها الإستعمارية في السودان وشرق أفريقيا تقتضي فصل الجنوب عن الشمال أملاً في ضمه لممتلكات بريطانيا في يوغندا وشرق أفريقيا فحاولت عزل الجنوب عن الشمال وعملت على تصفية الوجود الشمالي فيه بشتى السبل وذلك عبر تنفيذ واحد من ثلاثة خيارات الخيار الاول فصل الجنوب عن الشمال وضمه لأوغندا اما الخيار الثاني هو إنشاء إدارة فيدرالية للجنوب وضمه للشمال أما الخيار الثالث هو ضم الجنوب للشمال كإقليم سوداني كغيره كغيره من الاقاليم الأخرى كما كان من قبل. تمهيدا لتنفيذ هذه الخيارات تبنت الحكومة الاستعمارية بعض السياسات التي تحقق رغباتها في تحقيق خيار فصل الجنوب فبدأت باستثناء الجنوب من المجلس التشريعي (البرلمان) وقد لاقى هذا الإجراء إعتراضا قويا من مؤتمر الخريجين بل قاطع هذا المجلس وأمر عضويته بعدم المشاركة فيه, ولإتساع الفتق بين الشمال والجنوب سنت الحكومة البريطانية قانون المناطق المقفولة الذي صدر في سبتمبر 1922م والذي يمنع دخول الشماليين الى الجنوب إلا عبر أو الإقامة فيه إلا عبر تصريح رسمي وعزز قانون المناطق المقفولة ببعض التوجيهات التي قضت باستعمال اللغة الإنجليزية واللغات المحلية في التعليم في جنوب السودان ومنعت استخدام اللغة العربية وشجعت التبشير الكنسي وأوقف المد الثقافي العربي والدين الإسلامي من الانتشار في جنوب السودان ومنعت التجار الشماليين من الاستيطان في الجنوب بل حظرت ارتداء الأزياء العربية التقليدية كالجلباب والعمامة على الجنوبيين. هذه السياسة لاقت معارضة وإنتقاد شديدين من السودانيين ومن الاجانب حيث وصفها الكتاب وقتذاك بالأبارتيد Aparthed الجنوبي اي الفصل العنصري الجنوبي. تم التخلي عن سياسة المناطق المقفولة بعد الحرب العالمية الثانية بنهاية عام 1946 حيث استمرت لربع قرن من الزمان. يعزي كثير من الكتاب والساسة أن السياسة التي إنتهجها المستعمر حيال جنوب السودان كانت النواة لفص الجنوب عن الشمال الذي تم لاحقا في العام 2011م. الجدير بالذكر ان قانون المناطق المقفولة شمل مناطق أخرى في السودان كمديرية دارفور وجبال النوبة ولكن سرعان ما انحصر على جنوب السودان فقط.
5
في العام 1920م دعا الاستاذ حسين شريف الذي يعد رائد من رواد الصحافة في ذلك الوقت دعا الى تأسيس جريدة سودانية وطنية يستطيع من خلالها المثقفون والمتعلمون السودانيون نشر ارائهم التي ستساهم في تشكيل الرأي العام وقد كان حيث تأسست جريد حضارة السودان “الحضارة” في العام 1920م وتولى رئيس تحريرها الاستاذ حسين شريف وكان ملاكها هم السيد علي الميرغني والسيد عبد الرحمن المهدي والشريف يوسف الهندي . كذلك تأسست مجلة الفجر في العام 1934م كأول مجلة تجمع “الإنتليجنسيا” السودانية والتي تبنت بشكل كبير شعار “السودان للسودانيين” حيث أضحت المطالبة بسودان مستقل ليس امرا معاديا لمصر. بدأت “الإنتليجنسيا” السودانية في التعبير عن آراءها واشواقها من خلال الجرائد والمجلات ومؤتمر لخريجين حيث إنقسم السودانيون في منتصف العام 1924م إلى ثلاث معسكرات الاول معسكر التقليديين وهذا المعسكر يتبنى أن يظل السودان تحت الإدارة البريطانية إستعدادا لنيل إستقلاله أما المعسكر الثاني معسكر الوطنيين المعادين لبريطانيا والمؤيدين لمصر وهؤلاء يطالبون بإستقلال مصر والسودان ومن ثم التعاون مع مصر للحصول على الإستقلال أما المعسكر الثالث هو معسكر المعتدلين الموالين لبريطانيا والمطالبين بالإصلاح والتطور التدريجي لإصلاح الحكم الثنائي ثم الاستقلال وهؤلاء لم يكن لهم دور يذكر في الاحداث التي اعقبت هذه المرحلة كان المعسكر الاول يتكون من الزعماء التقليديين والدينيين والقبليين اما المعسكر الثاني كان يتكون من العناصر المتعلمة تعليما عصريا.

Krimhashimi5@gmail.com
0912677147

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق