عبدالله الشيخ:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينُه أبداً لأول منزل.. تنقسي الجزيرة بلاد مفارش الصِبا، رحل عنها أهلها أو كادوا يفعلون، فاستوطنتها الغربان والسحالي.
تنقسي جزيرة خرشها الهدام، وتعشكبت أرضها بالمسكيت والحلفا وطفيليات يسوقها الفيضان في كل عام. هجرها أهلها، لكنهم يعودون اضطراراً في مواسم حصاد البلح والفول والمريق.
عندما يأتي طير الرهو من هجرته مع تباشير الشتاء، تورِق الجروف بزهور اللوبيا وعيش الريف وتتنسم البيوت عبير البرتقال. في ذاك الموعد تزدان صحراء الشمال برائحة كالمِسك، فتزدهر الحياة ببهجة القناديل التي سرعان ما تكرشها بعيداً جيوش (النِّمِتّي).
جزيرتنا ترضى بكل حال، لايغض مضجعها مع النسايم إلا هذا (النِّمِتّي) الذي تكاثر واتخذ اشكالا والوانا متعددة… بعد ان كان يطن في الاذان ويُدمي العيون، تحول في هذا الزمان، إلى آفة تنخر العظام.
(النِّمِتّي) حشرة كالباعوض وربما أشد خطراً، هذه الحشرة تتواجد بكثافة في منحنى النيل… يقولون ان النمرود بن كنعان امتلك قصر فسيحاً في تلك النواحي وان (النِّمِتّي) ضيقت عليه سِعة الارض، عندما انحشرت في أنفه وبدأت تلتهم مُشهيات منقاره.. كانت رعية النمرود تهدئ طنينها وفرفرتها بضرب مليكهم بالحذاء على يافوخه.. هكذا دخل النمرود التاريخ، ملكاً تعالجه رعيته بالبرطشة، ويا سبحان الله!.
لم يزل أهلي ينظرون إلى سلاطين الزمان بهاتيك العيون، فهذا بعض رصيدهم من شجن الأيام .. تلك اسطورة،، لولا أن شعانفها لم تزل ماثلة، تراها رأي العين في سلوكهم اليومي.. الحكومة في حياة أهل تنقسي شر لابد منه، مثلما يدلق النيل ماءه على الجناين، فيُخرج الطين آفاته من دبايب وعقارب،، يصبر عليها أهلي حتى يهرب الماء، فيفرحون ويقولون أن (البَحَرْ شَرَد)،، بعد ذلك الهروب للنهر يدخلون على جروفهم بالسلاليك.. جزيرتي تحتاج الحكومة عندما تأتي لتبيع لهم الطباشير،، غير ذلك من هموم الدنيا يأتيها عن طريق التهريب، ليباع هناك باضعاف سعره.
تنقسي جميلة، ألفناها على كل حال، وقد يؤلف الشيئ الذي ليس بالحسن، وتُستعذب الأرض التي لا هواء بها، ولا ماؤها عذب، لكنها وطن،، فكيف وقريتنا عذبة الماء ورائقة الهواء.
جزيرة تنقسي كانت مسرحاً لأحداث عظيمة لذلك اكتسب أهلها إرث عظيم من الذكاء والحكمة… كلما زاد عدد أبناءها على سعة شقوق الطمي، يتنازل بعضنا للبعض الآخر مهاجراً.. من يبقى في (العَقَاب) يستصلح ويباصر (التقانِت) فتجود عليه بحسب عرقه.
النيل لا يزال في مسربه، فهو كما النفوس التي تتغيّر مجاريها.. الأنفس الشحيحة والمكوس المتصاعدة تكالبت على الجزيرة الخصيبة حتى كادت أن تجدب وتتصحر.. حال قريتي كحال أعمى المعرة، إذ يقول في قصيدته التي ذكر فيها (قاف رؤبة):
(مُلّ المقام فكم أعاشر أمة – أمَرت بغير صلاحها أمراؤها).
بلدنا جميل، هواها عليل، لكن طول الغياب جعلني غريباً.. ها أنذا هناك، أرى وجوهاً تحمل ملامحي، فلا أعرفها.
ساعة العصاري، الضُّل يمد فوق الجروف، يكسي التِّبيسات بالطِرَحْ وعين الشمس تنزِل خِجيلاني وتكوِّع بين شِديرات البلح
والغيم ينقِّط مِن دموعو
علي الصفيقات السبح
امونة تمسح من دميعاتها
وتلون قوس قزح
….
ويا حِليلك يا تنقسي..