أخبار وتقارير

وطني،، لنتعلم من الحرب معنى أن نُحب

حـدود المنطق

إسماعيل جبريل تيسو:

دفعت بنفسي المُثْخنة بجراحات الوطن وأوجاع البدن إلى داخل إحدى الحافلات (مكرو بص) وهي تدير محركها في الموقف الرئيس الواقع في ميدان لبنان بمدينة المهندسين تأهباً لتقل الركاب إلى منطقة الحُصَري في قلب مدينة ستة أكتوبر جنوب غرب قاهرة المعز، ارتميتُ على أقرب مقعد قابلني وأنا اتحسس بقايا ألام تركتْها أصابع العلاج الطبيعي وأجهزة الشحن والموجات الكهربائية التي أكابدها طمعاً في إيجاد علاج ناجع لحالة الانزلاق القضروفي التي انزلقت معها حياتي إلى هاوية من الهموم والشكوى وعدم النوم.

ماهي إلا لحظات ووجدتُ نفسي شارداً وغارقاً في أعماق بعيدة من أفكار تتعلق بحال البلد في ظل الحرب اللعينة التي تطاول عمرها، وتطاولت معها معاناة ملايين السودانيين الصامدين تحت النيران داخل السودان، أو المشردين مثلي، ما بين نازحين في ولايات البلاد الآمنة، ولاجئين في دول الجوار.

رجعتُ إلى نفسي وأعدتُ النظر كرتين، فانقلب إليّ البصر خاسئاً! كيف لا ؟؟ وصدى مطارق صاخبة من أسئلة حرجة، بدأت تضرب بعنف وتصدع ( نافوخي): إلى متى تستمر هذه الحرب؟ ولماذا يتعامل الجيش بصبر كبير في التعامل مع هذه الميليشيا المتمردة؟ وإلى أي مدى يبدو موقف حركات دارفور المسلحة سليماً بالتزامها مبدأ الحياد؟ ولماذا لاذت الدبلوماسية السودانية بالصمت وأمسكت عن تعرية وفضح الدول الداعمة للتمرد؟ ومتى يختشي القحاتة؟ ويرعوي مستشارو حميدتي؟ ويقتنع فولكر بيرست بعدم رغبة السودانيين في رؤية وجهه المشؤوم مرةً أخرى؟ وكيف …..؟وأين ………؟

إيه يازول!! إيه يا ابن النيل؟ قطع عليّ جليسي المصري المجاور لي في مقعد الحافلة، حبل تفكيري ووابل الأسئلة التي تتساقط كرصاص المتقاتلين في سماء الخرطوم،،
الأجرة يازول،، يضيف المصري، وبعد أن فرغ من جمع قيمة الأجرة من جميع ركاب الحافلة، إذا به يلتفت إليَّ مرةً أخرى ويباغتني بالسؤال: هو إيه اللي بجري في السودان؟ حرام والله، إنتو أحنَّ وأفضل ناس!!، إزاي تتقاتلوا مع بعض؟ وفين في الخرطوم!! أكثر مدن العالم التي تهب الأمن والسلام والأمان؟ هو إيه اللي بحصل يا جدعان.؟!

ازداد طين حزني بِلّة بحديث جليسي المصري، فحاولت جاهداً ألملم شتات روحي لأشاركه الحوار، ولكنَّ مصرياً آخراً قطع لحظات الصمت متغزلاً في حبه وعشقه للسودانيين، رغم إنه لم يزر السودان قط كما يقول، ويضيف أن معظم أصدقائه ومعارفه من السودانيين، وأنه كان كثير السفر إلى دول الخليج، وكان يحرص دائماً عندما يسافر إلى أي دولة، أن يبحث عن مجتمع السودانيين ويندمج فيه لإعجابه الشديد بعلاقاتهم الاجتماعية وحنيِّتهم وطيبتهم وتعاطفهم وتكافلهم مع بعضهم البعض.

عاد جليسي المجاور إلى المشاركة في الحوار، وأبدى ملاحظة مهمة بعد تأمينه على حديث مواطنه بشأن متانة العلاقات وعميق الصلات والوشائج وعرى الأواصر الاجتماعية التي تربط بين السودانيين بعضهم ببعض، على عكس المصريين الذين قال إن علاقاتهم الشخصية كثيراً ما تصطدم ببعض المصالح اللحظية التي غالباً ما تكون عرضة للوقوع في براثن الخلافات و( الخناقات) يقول جليسي، ويضيف أن الفرق بين السودانيين والمصريين في أن السودانيين يحبون بعضهم حباً جماً، ولكنهم يتعاملون بفتور واضح في علاقتهم وانتمائهم الوجداني تجاه وطنهم، منوهاً في أسف شديد إلى أن السودانيين أكثر الشعوب سخطاً وسبَّاً ولعناً للوطن! ( ملعون أبوك بلد)!! وفي المقابل تجد المصريين لا يتهاونون إطلاقاً ولا يتلاعبون قط في وطنيتهم وحبهم الجارف لبلدهم ( تحيا مصر).

لا أذيع سراً إذا قلتُ إن رغبةً ملحة انتابتني عند سماع هذا الحديث لأبكي وانتحب ولكنني قاومتها واجتهدت لأدسَّ وجهي بين تلابيب جلابيتي، وحمدتُ الله كثيراً أنني كنت أجلس جوار نافذة الحافلة التي وجدتها أضيق من أن تتحمل إخراج وجهي وكتفي وليتني أخرجت كلّ جسدي ورميت به أمام حركة السيارات المسرعة.

لقد صدق مُحدثيَّا المصريان وهما ينوهان إلى افتقاد الكثير منا كسودانيين لحنكة التعاطي المحترم وتقدير قيمة الوطن، وها هي الحرب اللعينة تكشف عن ساقها وتُبرز أسوأ ما فينا من وضاعة الارتماء في أحضان العمالة والخيانة والارتزاق، والاتجار في الأزمات، والارتهان إلى الأنانية بتغليب المصلحة الذاتية، وغياب الضمير والإصرار على إلحاق الأذى بالغير، وممارسة الشيطنة وقتل الشخصية، والنهب والسرقة وتعمد تدمير البنية التحتية، والتعالي والادعاء الفارغ، والتهرب من تحمل المسؤولية، وغيرها من الفظائع التي شوَّهت قيمة ( الزول ) رمزية الإنسان السوداني التي اُشتهرت بالقيم الأصيلة والمُثل النبيلة على مستوى محيطنا العربي والإقليمي.

إن هذه الحرب مهما تطاول عمرها، ومهما أكلت نيرانها من أخضر ويابس الواقع السوداني، فإنها قطعاً ستنتهي، وتتوقف معها لغة السلاح التي كانت وسيلة حمقاء وقاتلة ومدمرة، نعم ستنتهي الحرب وتزول السكرة لتبقى الفكرة مشحونةً بعدة مخاوف، وعدة أسئلة مزعجة ومنزعجة عن مستقبل سودان ما بعد الحرب، مآلاته وملامحه؟ وكيفية بنائه؟ وإعادة تأهيله؟ وسبل تجاوز المرارات التي أفرزتها الحرب؟

إن الإجابات المنطقية لهذه الأسئلة المزعجة ينبغي أن تكون واعية بمعطيات السودان الذي نريد، لابد من إلغاء مفهوم المعادلة الصفرية السائد في قاموس وأفهام الكثير من النخب السياسية، ولابد من إعمال مصالحات وطنية جادة وحقيقية، مصالحات قائمة على التسامح والتجاوز ومبنية على الصدق والثقة وتغليب مصلحة الوطن، وبعيداً عن شعارات غبية، وبعيداً عن مفاهيم قديمة يعاد تصديرها بعناوين جديدة، إن السودان الأن في حاجة ماسة إلى جميع أبنائه، وأبناء السودان الأن في حاجة ملحة إلى الأمن، لقد عرف كل السودانيين قيمة الأمن والأمان، بعد أن كانوا بالأمس القريب يتجادلون ويتشاكسون على حكم السودان! أيها الناس، أيها (الزولات)، أيها السودانيون تصافحوا وتسامحوا وتصافوا وتعافوا، واتفقوا على كلمة سواء وتعالوا جميعاً بقلوب سليمة لتحبوا الوطن، فبالحب وحده يحيا السودان.

 

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق