مقالات

لوحات على جدار الزمن .. “العودة إلى الديار”

صوت القلم

د. معاوية عبيد:

الحرب عالم تعيس، لا يمكن تخيله ولا الحديث عنه، الذين خاضوا الحروب فقط هم الوحيدون الذين يمكن لهم أن يعبروا عن المآسى التي مرت بهم، هؤلاء الذين يسيطر عليهم حلم وحيد هو “العودة إلى الديار”.
رسم الفنان الألماني هانز أدولف بولر (1877–1951) لوحة باسم ( 100 لوحة عالمية.. “العودة إلى الديار” النجاة من قسوة الحرب ) تختصر اللوحة العودة التي رسمها الفنان هانز ، الجندي الذي يكاد يكون مستسلما للنوم الذي يعنى الراحة، بينما تدل ثيابه ويديه المهدلتين بأنه قد أنهك تماما ، و الجراح التي خلفتها الحرب في جسده و في قلبه ، بينما الفضاء حوله يدل على أن الحرب لم تبق شيئا يدل على الحياة لا شجرة ولا مبنى ليس سوى الألوان الرمادية. يختصر فيها كل هذا الحلم ( العودة الي الديار ) ، حتى لو عاد الإنسان مهدمًا تماما يحلم بالراحة في حضن من يحب، أن يسند رأسه على قدمي حبيبته .
هذه اللوحة رسمها هانز أدولف بولر في عام 1940 قبل سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية الدميمة التي قضت على ملايين البشر وخربت القرى والمدن وأعادت تقسيم العالم ، اي لوحة سيرسم هذا الفنان لو شاهد ما فعله المتمردون المرتزقة الجنجويد بالخرطوم و دار فور و غيرها من المدن السودانية التي دنستها اقدامهم .
كانت لوحة رسمتها علي جدار الزمن ( مرفقة مع هذا المقال ) وهي تحكي الحال الذي وصلنا اليه بعد رحلة معاناة شاقة تركنا فيها ديارنا التي دنستها اقدام المرتزقة وسلبها المجرمون و احرقتها نيران الحرب ، تتجاوز الصورة في تعبيراتها الحرب وتقدم دلالة كبرى على كل المتعبين في حياتهم الحالمين بالعودة إلى ديارهم ، فجميعنا متعب من رحلته و هناك الكثير من الحزن يكتنف قلوب البعيدين عن ديارهم وكل يحلم بالعودة للديار ، كل من فقده دياره أو موطنه ارتسمت هذه اللوحة في خياله و واقعه ، فهو حتما يحترق شوقا للعودة الى دياره . كنت واحدا من الذين اخرجوا من ديارهم مكرهين بسبب هذه الحرب اللعينة و كانت و جهتي الي مسقط رأسي حيث الدفء والأمان و الأمن و الاهل و العشيرة ، لكن رغم عن كل ذلك نريد العودة الي الديار التي بنيناها بعرق الجبين و نجد فيها الدفء و الحنين و حولك الابناء و الزوجة مبسوطين ، الديار التي سكبنا فيها عرق السنين و عشنا فيها بالحب متآلفين بعشق رسمناه علي قلوب و علي جدران منزلنا و علي جدار الزمن ، عشق رويناه بدم الشريان ورسمناه علي قلوبنا لوحة فنان
الديار أو الوطن هي إحساس ومعني انساني ، فالطيور لها ديارها (أعشاشها ) ، (تغدوا خماصا وتعود بطانا ) ، ومن عاش في الصحراء طوال حياته، أحبها، واعتبر نفسه طفلها، وأصبحت هي دياره وموطنه ، ويقول الشاعر : ( ابني عشك يا قماري قشة قشة ….وعلمينا ياقماري كيف علي الحب دارنا ينشئ ) ، لكن التحاسد و التباغض و الاختلاف و الفتن و الخيانة و العمالة و الارتزاق و حب الذات ، دمرت الصلات و أشعلت الحروبات ، و هَجَرت الطيور وابعدتنا عن الدور وكشفت المستور اللي كان مخبئ في الصدور .
في كل مرة أبتعد فيها عن دياري أشعر وكأنها المرة الأولى التي أفعل فيها ذلك ، يمتلئ قلب المرء سعادة عند عودته الى دياره ، سعادة ممزوجة بشعور صادق التعبير لجيران و صداقات كثيرة، لم نشعر بقيمة الارتباط بهم الا مع فداحة الفقد لهم ، والشوق إليهم بولع كاننا قضينا دهرا بعيدا عنهم ، حتى الذين كانت لنا معهم خلافات ، هؤلاء أيضا نشتاق إليهم بشدة ، البسطاء الذين نجدهم في حياتنا اليومية و مناطق العمل ، والذين يطاردونك عبر نوافذ السيارة طلبا “حسنة” نشتاق إليهم وإلى ما وهبوه لنا من رضى وضحكات ، نشتاق إلى الناس والأرض والبيوت وضجيج الشوارع والزحام ففي كل حالة من هذه الحالات يقف خلفها إنسان طيب ومسالم وبسيط حد المحال ، رائحة الخبز لها طعم مميز ، اختلاط روائح الخضراوات في الأسواق، رائحة شواء اللحوم عند المطاعم ، رائحة عيش الريف عند بائعي الدردقات ، ضجيج الباعة في الأسواق ، رائحة البخور عند المقاهي ، رائحة العطارين ، صوت الباعة و الفرشين ، صوت الابقار عند الحليب ، هدوء مياه النيل السكينة الامن الامان في الليل البهيم ، كل شيء مميز وخاص ومحبب ما إن تتركه الإ وتشتاق إليه .
غريب أمر هذا البلد ، لا يدرك ذوبانه داخل الجسد من يعيش فيه الا لحظة أن يغادره ، مكرها أو طوع اختياره ، يقول الدكتور مصطفي محمود ( رحمه الله ) : ” كلنا يخرج من الدنيا بحظوظ متقاربة برغم ما يبدو في الظاهر من بعض الفوارق. وبرغم غنى الأغنياء وفقر الفقراء ، فمحصولهم النهائي من السعادة والشقاء الدنيوي متقارب. فالله يأخذ بقدر ما يعطي، ويعوض بقدر ما يحرم، وييسر بقدر ما يعسر ، ولو دخل كل منا قلب الآخر لأشفق عليه، ولرأى عدل الموازين الباطنية برغم اختلال الموازين الظاهرية ، و لما شعر بحسد ولا بحقد ولا بزهو ولا بغرور ، إنما هذه القصور والجواهر والحلي واللآلئ مجرد ديكور خارجي من ورق اللعب. .وفي داخل القلوب التي ترقد فيها تسكن الحسرات والآهات الملتاعة . والحاسدون والحاقدون والمغترون والفرحون مخدوعون في الظواهر غافلون عن الحقائق . و لو أدرك السارق هذا الإدراك لما سرق، ولو أدركه القاتل لما قتل، ولو عرفه الكذاب لما كذب . ولو علمناه حق العلم لطلبنا الدنيا بعزة الأنفس ولسعينا في العيش بالضمير ولتعاشرنا بالفضيلة فلا غالب في الدنيا ولا مغلوب في الحقيقة ” .
سعادتي بالعودة الى الديار تغالب بداخلي كل هذا الحنين، وعطر للأصدقاء و الجيران الذين فارقتهم يفتح في مخيلتي احلام و آمال عراض ، لكن الأمر الجدير بأن يتوقف عنده الذهن فلا يبتعد لحظة هذه الحالة الانسانية التي تختلط فيها كل المشاعر، لابد مر بها كل من حركته طبيعة الحرب من دياره الى ديار أخرى ، بداخل كل منا حب كبير تجاه دياره التي رواها بدمه من قلب ينبض حباُ ، و هجرها مرغما وقلبه ينزف دماً ، وحنين دائم للديار ، لذا لطالما عبر الناس عن هذا الحنين الجارف لبلادهم وديارهم بشتى الطرق سواء في الشعر أو في الروايات أو حتى في الأغاني فهي في النهاية تعتبر أصدق خواطر عن الديار .
الشاعر المتفرد الراحل عوض جبريل (رحمه الله) عندما اجتاحت السيول و الأمطار دياره و هدمتها قال رائعته ( ما تهتموا للايام) و التي تغني بها الفنان كمال ترباس و من ابياتها :
ما تهتموا للايام ظروف بتعدى
طبيعة الدنيا زى الموج تجيب وتودى
مصير الزول حياتو ياما فيها يشوف
وفى دنيانا بنلاقي الفرح والخوف
مصير الزول عشان يفتح طريق يادوب
يضوق المرة. ويتوشح بصبر أيوب…
جمال الدنيا فى بسمة سرور وجمال
وفى فرح الخواطر الطيبة فى الآمال
وفى شروق الصباح فى بسمة الأطفال
ومهما تظلم الأيام ضياها الفال…
هذه هي ديارنا وحياتنا ووطنا ، وبما أننا لا نملك وطن آخر غيره، فسنحارب من أجله حتى النهاية ولن نتخلى عنه أبداً حتى الموت.
الحنين للماضي لا يرتبط فقط بابتعادك عن الديار، ولكن يمكن للمرء أن يشعر به أيضاً وهو داخل وطنه.
لا يوجد مكان آخر على هذه الأرض سوى دياري ووطني الكبير أشعر فيه بإحساس قوي بأنني انتمي اليه و ينتمي إلي .

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق